أحمد الجمال
فرصة للقراءة والصمت والتأمل والراحة من مجاملات حضور السهرات والعشوات والندوات، بل والعزاءات والقرانات جمع «قران».. فرصة لإعادة قراءة نظرية مالتوس، الذى رأى أن إنتاج الغذاء يمضى بمتوالية عددية، وإنتاج المواليد يقفز بمتوالية هندسية، وحتى يتم التوازن فلا بد من المجاعات والحروب والأوبئة، بل وتعقيم ذكور البشر وإناثهم.. وهناك إحصاءات عن مئات الألوف، الذين تم إخصاؤهم فى أمريكا من السكان الأصليين!

وفرصة للرجوع إلى ما تعودت أن أقرأه مرات متعاقبة، بعد أن تعرضت لمحنة هجرة الكتب، رغم أنفى، إذ تنقلت بين أكثر من دار لضرورات ملحة إلى أن وجدتنى فى مستقر، أرجو أن يكون الدائم، حتى يحين موعد الرقاد الأبدى فى المرقد الذى اشتريته قبل عدة أشهر، وكتبت عليه «المرقد»، لأننى أنزعج من مصطلح المدفن.

أعيد قراءة كتاب عنوانه «اغتصاب مصر»، تأليف بيتر فرانس، وترجمة محمد مستجير مصطفى، وناشرا الترجمة هما دار «سينا» للنشر ودار «الانتشار العربى» الطبعة الأولى 1998. ولست بصدد عرض الكتاب، رغم أن فيه ما يستوجب نشر نصه كاملًا على حلقات فى الصحف لو كان الأمر بيدى! فى الفصل السادس المعنون «العين الغيورة»، يتحدث المؤلف عن مصر، التى كانت أرضًا مباحة للأوروبيين أفرادًا ومتاحف، حتى يصل إلى وقائع سرقة المخطوطات من بعض الأديرة بطريقة عجيبة، ثم يحكى عن موقف لبابا الكنيسة الأرثوذكسية المصرية، دون أن يذكر اسم البابا.. ولأنه موقف وطنى عظيم بدأت أبحث عن اسم ذلك البابا، فأحضرت كتاب «السنكسار» بجزأيه، ولم أجد فيه بغيتى، فاستعنت بمرجع آخر، هو تاريخ الكنيسة القبطية، الذى ألفه القس منسى يوحنا، وصادر عن مكتبة «المحبة»، ووجدت إهداء لى من صاحب النيافة الأنبا موسى نصه: «إلى الأخ الحبيب الأستاذ أحمد الجمال، مع خالص محبتى وشكرى الجزيل، لأجل تشريفه لقاء مجموعة المشاركة الوطنية بالأسقفية»، ثم توقيع نيافته.

يحكى بيتر فرانس أن روبرت كيرزون - بارون زوش الرابع عشر - وكان دارسًا ورحالة طاف بمصر وسوريا وفلسطين عامى 1833 - 1834 باحثًا عن المخطوطات فى مكتبات الأديرة، وفى الإسكندرية لقى الترحيب فى دير قبطى، ثم عاد إليه ليلح على الرهبان بكميات كبيرة من «العرقى»، تاركًا مضيفيه سكارى، وآخذًا معه مجموعة كبيرة من المخطوطات. وبعد خمس سنوات وجد الأب هنرى تاتام، وهو باحث بارز للقبطية، وخورى «قسيس»، سانت كوثبيرت - بدفورد، الوقت ليترك واجباته الرعوية مدة تكفى لزيارة الدير نفسه، ومستخدمًا الأسلوب نفسه فى تخدير الرهبان، ورحل ببقية المكتبة، ورغم أن هذا أثار ما يشبه الفضيحة فى الدوائر الأكاديمية، إلا أن الأب تاتام عُيّن قسيسًا خاصًا للملكة فيكتوريا، وحصل على الدكتوراة الفخرية من جامعات دبلن وجوتنجن وليدن!!

ثم يأتى ذكر «مريت» عالم الآثار الذى باسمه الشارع الملاصق لمتحف القاهرة، وقد تلقى تعليمات بأن يبحث عن مخطوطات فى الأماكن نفسها، أى الأديرة، وإن لم يكن بالأسلوب نفسه، لأن صوت المال مرتفع كصوت «العرقى»- حسب كلام المؤلف- وما إن هبط مريت مصر فى سبتمبر 1850، حتى اكتشف أن كل المخطوطات التى كانت بالأديرة القبطية، قد أرسلت بأمر البطريرك إلى القاهرة، ووضعت فى قاعة كبيرة بعيدًا عن متناول المغامرين الأجانب.. وكاحتياط إضافى أغلقت كل الأبواب المؤدية للقاعة بجدران، واستقبل البطريرك مريت بكثير من الرقة، فقد كان فى نهاية الأمر ممثلًا رسميًا للحكومة الفرنسية، وقدم له وعودًا غامضة بالمساعدة فى المستقبل، وسرعان ما رأى مريت أنه يراوغ، وتخلى عن كل أمل فى حيازة المخطوطات القبطية.

لم يذكر المؤلف اسم البابا، ولا انتبه المترجم، وهو محترف ومحترم، لأن يذكره فى الهامش، وعليه ذهبت للمصادر والمراجع فوجدته البابا البطريرك بطرس، البطريرك المائة وتسعة، الذى ولد بقرية الجاولى مركز منفلوط، ولهذا اشتهر باسم «الجاولى»، وكان يدعى أولًا منقريوس، ورُسّم قسيسًا بدير القديس أنطونيوس.

وسيرة هذا البابا الجليل تستحق أن يعرفها المصريون كافة، خاصة علماء الدين والدعاة ورجال الدين.. وأستأذنكم أن أستكمل هذا المقال بتلخيص لسيرة هذا الرجل.
نقلا عن المصري اليوم