كتب : مدحت بشاي
medhatbeshay9@gmail.com
 
نتابع من آن إلى أخر عشرات المقالات التي يحدثنا أصحابها بمرارة عن انتشار مظاهر القبح في شوارعنا ومؤسساتنا بكل نوعياتها حتى المعنية بأمور التنشئة والتعليم والثقافة والرياضة .. ويبقى الأهم من قبح المظاهر ، هو قبح السلوكيات ( سلوكياتنا نحن ) وتراجع الاحتفاء بمظاهر الجمال في حياتنا ، بل والإقدام على تشويه بعضها بكل غباوة وجهل وكراهية مقيتة !!
 
ولكن ، للأسف فإن بعض من يحدثوننا بتباكي وحسرة عن إنزواء قيم الجمال المحققة للبهجة والسعادة لعموم البشر عبر كل وسائط الميديا ، نجدهم و قد تعاملوا مع الفنون والأعمال الإبداعية ومبدعيها عبر تناول سطحي وانطباعي ، والغريب أن تتاح لهم مساحات هائلة يعرضون فيها سير ورحلات عطاء من رحلوا ومن لا زالوا بيننا من أهل الإبداع ، و بدلًا من استثمار تلك المساحات للنقد المحترف والموضوعي وجعلها مساحات للتنوير والتعريف بتاريخ الفنون ومدارسها وبذل الجهد في قراءة جوانب الجمال وإضاءات الإبداع المميزة والإضافات المتحققة لتحقيق طفرات في دنيا الفنون والإبداع ، فإذا بنا أمام صفحات وبرامج تصور من يشغلونها أن كل مهامهم الاكتفاء بالحديث التقليدي تحت عنوان  ( الفنان فلان الذي لا تعرفونه ) .. وتنساب الحوارات والمقالات بالاكتفاء بتفاصيل السير الذاتية الاجتماعية ( على طريقة أين ترعرع سيدي وأكلتك المفضلة وقالوا عنك بخيل وطلقت عشر مرات ليه هه .. إحكيلنا وسلينا !!! ) ..
 
بمناسبة مرور ربع قرن على رحيل الموسيقار الرائع بليغ حمدي كانت هناك حالة احتفاء إعلامية هائلة مستحقة بالمناسبة ، ولكن في غياب صفحات ومجلات متخصصة في فنون الموسيقى كان أغلب تلك المتابعات وكأننا بصدد كتابة سيرة ذاتية ، ورصد حواديت للاستظراف من جانب محررين وكتاب تقارير ، اكتفوا بعلاقاته بنجمات عصره ، و حكايات من نوعية وعده بالزواج من الفنانة صباح ويوم الفرح نسي الموضوع وحدوتة المطربة المغربية المنتحرة في بيته ....إلى غير ذلك مما يطلقون عليه الوجه الأخر للفنان !!
 
وبدلًا من استثمار الفرصة للوقوف على دوره المؤثر في دنيا النغم والإبداع الموسيقي ومراحل العطاء المختلفة و كيف اخترق الساحة الموسيقية في وجود عمالقة .. تعلم منهم وأضاف إليهم .. لنقدم لشباب الإبداع الموسيقي المزيد من تفاصيل رحلة موسيقارنا العظيم ليفيدوا ويفيدوا ، استغرقت معظم متابعات الاحتفاء بالمناسبة في تفاصيل ساذجة ... لا حديث عن دوره في تطوير الأغنية الشعبية وكيف تحقق له ذلك .. لا تناول لإسهاماته الرائعة في مجال المسرح الغنائي والاستعراضي .. ماذا قدم في مجال الأغنية الوطنية لتطويرها لتلامس وجدان ومشاعر الناس ..والحديث يطول حول خيبة الأمل في تضييع الفرص التي لو تقدم لاستثمارها نقاد من أهل الاختصاص لكنا أمام احتفالية على قدر من الاحترام لمبدع عظيم قدم لمصر عمرًا من الإبداع  !!
 
و يُعد الناقد المحترف مساهم أول في تكوين الذوق العام، والتأثير عليه .. مهمته أن يقدم قراءة دقيقة للعمل الموسيقي، موضحا مواقع الإضافة والإثراء الفني أو حالة التراجع الفني والإبداعي ..
 
و منذ نهاية القرن التاسع عشر ، نجد أسماء قليلة استطاعوا أن يكونوا على هذا القدر الاحترافي والمهني  ولعل في مقدمتهم  : كامل الخلعي، قسطندي رزق، كمال النجمي .. ومعظم هؤلاء عملوا في الصحافة .
ولعلي أكتفي هنا ببعض تفاصيل مقال كتبه العبقري الشيخ " سيد درويش " كنموذج لمبدع يكتب في النقد الموسيقي ، وتم نشر المقال في 16 يوليو 1922 بجريدة " اللواء المصري " ..
 
يقول " طرق باب منزلي يومًا ففتحت وإذا بساعي البريد يناولني العدد السادس من مجلة الروايات المصورة ، فدهشت إذ لم أكن من مشتركيها واسترجعته الأمر لعله يكون قد أخطأ العنوان فأعاد النظر إليه واطمأن إلى صحته فأعطانيه وانصرف . فضضت الغلاف وتصفحته فاستوقف نظري مقال في الموسيقى ففهمت أن هذا بيت القصيد وقلبت الصفحات فعثرت على رد عليه فأدركت أن مرسل العدد يطلب إليّ أن أدلي برأيي في الموضوع أو هو يتحداني إذا كان ممن يعرفون عني التزام الحيدة كلما قامت منازعات حزبية .
 
ففي الوقت الذي نشكر فيه الأستاذ منصور أفندي عوض وحضرة سامي أفندي الشوا على إدارة مدرستهما لخدمة الموسيقى لا نقر القائلين على أن " روضة البلابل " سخيفة سقيمة ولم أكد أتم المقالين حتى وافاني صديق برسالة عنوانها " تقرير الموسيقى المصرية عن سنة 1922 " تلوته أيضًا فدفعني الواجب نحو الفن أن أرد عليه لكي أقوم بخدمة للفن الذي وقفت عليه جهودي ، أؤثر الحياد في المسائل الشخصية ولكن الأمر إذا تعداها إلى المسائل الفنية فهنا لا يعرف الصديق صديقه ولا يبقى الصادق على حقيقة إلا أخرجها للناس ابتغاء مرضاة الحق لا يخشى في ذلك لومة لائم .
 
أضم صوتي إلى صوت سامي أفندي الشوا بأنه لا توجد نغمات تسمى صبا كردان أو نهاوند كردان ، أو كردي راست كما ادعى اسكندر شلفون .أما علامة الربع المقام التي ورد ذكرها فإنها ليست من استنباط منصور أفندي عوض بل هي قديمة مدونة في كتب تركية وعندي منها ما هو مطبوع وإني مستعد لعرضه على من يشاء .
 
أما قول سامي أفندي الشوا بأنه سافر إلى الآستانة فلم يجد من بين كبار الموسيقيين الأتراك من يستعمل علامات ربع المقام فمردود عليه ، وإلا فليتفضل بذكر أسماء هؤلاء الأساتذة وإني على ثقة تامة من أنه لن يستطيع أن يذكر اسمًا واحدًا منهم .أما الادعاء بأن الأستاذ منصور أفندي عوض استنبط علامات ربع المقام فهذا باطل لأنها واردة في كتب قديمة مطبوعة كما ذكرنا وإني أنصح لحضرته بصفتي صديقه أن يسحب تسجيله لتلك العلامات من المحكمة المختلطة المصرية فلا معنى لأن يسجل الإنسان باسمه شيئًا قديمًا معروفًا إلا إذا كان يعتقد أن البلد خلو من المطلعين على تاريخ الفن وتطوراته في مصر والخارج ، وليست هناك عبرة بأن يغير بعض التغيير في معالم العلامات الأصلية .أما قوله بأن الأتراك يدونون كل مؤلفاتهم بالنوتة الأرمنية فليس هذا دليلاً على أن موسيقاهم خلو من علامة ربع المقام .وأما ردي على قول سامي أفندي الشوا بأنه مستعد أن يثبت لنا عدم وجود ربع المقام عند الموسيقيين الأتراك بمؤلفاتهم المخطوطة وكتبهم الموسيقية فهو ( هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) فليس الأمر فوضى بيننا .
 
ويختتم الموسيقار المبدع مقاله " وإذا شاء حضرته الاطلاع على كنوز هذا الفن فليتفضل بزيارة لمكتبتي فإن فيها مما كتب في الموسيقى ما لا يوجد في دور الكتب بمصر والأسكندرية والسلام ." 
 
ما رأيكم دام فضلكم في ذلك المقال النقدي الاحترافي منذ ما يقارب القرن من الزمان ؟!!