فاطمة ناعوت
مِزاجى اليومَ تشكيلىٌّ. ملوّنٌ بألوان الحياة، لا ألوان الموت. جلستُ إلى مكتبى لأكتب عن «فيروس كورونا» الذي يحصد البشرَ بعداء وغلظة، دون سبب مفهوم، ودون ثأرٍ مُسبق بينه وبين البشر، فإذا بالقلم يقودنى نحو الحياة، والجمال، واللون! عجيبٌ أمر القلم إذ يسوسُنا ويقودُ حروفَنا وكلماتِنا على غير ما نختارُ وما نهوى. للقلم شؤونٌ وسلطانٌ، وعلينا السمعُ والطاعة والخضوع إلى سلطانه. ولكن العجبَ يزولُ حين نتذكّر أن الحياةَ هي المقاومُ الأقوى للموت.

لحظاتٌ أسطورية تلك التي تقضيها متجولًا بين أروقة معرض لوحات أو متحف قطع نحتية، لكى تَعُبَّ من نهر الحياة. أكتبُ إليكم في إحدى تلك اللحظات الأسطورية، من متحف «ڤان جوخ» الوطنى بأمستردام الهولندية. يا إلهى! كم اختصّ اللهُ واهبُ المَلَكاتِ، مانحُ النِّعم، هذا الرجلَ الفقير النحيلَ الحزين أحمرَ الشعر أزرقَ العينين، بفيض هائل من الموهبة في تشكيل اللون وتخليق مساحات النور والظلال والخفوت حسب مشيئته! كأنما يحملُ بين يديه شمسًا وهاجة يتحكم من خلال زرٍّ سحرىّ في مقدار إنارتها وإعتامها، فتغدو نجمًا برّاقًا حينًا، وتغدو شمعةً واهنةً خافتة الضوء، حينًا آخر.

قبل أعوامٍ، بدأتُ في كتابة سلسلة مقالات بجريدة «المصرى اليوم» عن «ڤان جوخ»، الرسام الهولندى الشهير، لما أحمل له من حبٍّ جارف بوصفه نموذج «الحزن النبيل» الأنصع. هو الفنان الذي عذّبه المرضُ، وأرهقته الوحدةُ، حتى أنهى حياته (37 عامًا) برصاصة في الصدر عام 1890. سألتُ شابًّا «جامعيًّا» في مصر: «تعرف ڤان جوخ؟»، فقال: «أيوا ده مكان، بس مش فاكر في أي بلد!»، فحزنتُ؛ وكدتُ أوقفُ سلسالَ المقالات. ثم تراجعتُ وقلت لنفسى: فليكنْ هذا الشابُّ وأضرابُه هدفَ تلك المقالات؛ علّها تشحذُ فينا حبَّ الجمال والفن، ليعود المصرىّ الراهنُ كسابق عهده، متذوّقًا للجمال، صانعًا له.

أؤمن بأننا لن نخرج من عثراتنا إلا بإعلاء قيمة الفن. عثرتنا الثقافية، والطائفية، بل وعثرتنا المرضية مع كورونا وغيرها من الفيروسات كذلك، فمتذوّقُ الجمال يكره القبحَ ويحاربه، يعرفُ حقَّه وواجبَه، لا يَظلم ولا يُظلَم. لا شعبَ احترم الفنَّ واستطاع غاشمٌ أن يقمعه أو مُضَلِّلٌ أن يُضلِّلَه. لم يقمِ الفرنسيون بثوراتهم، التي نالوا بعدها حريتهم وديمقراطيتهم، إلا بإنعاش حركات الفن التشكيلى في باريس، وبتواصلهم مع الموسيقى الألمانية الراقية. لأن الجمالَ البصرىَّ والجمالَ السمعىَّ والجمالَ السلوكىَّ والجمالَ الفكرىَّ، والجمال المجتمعىَّ، واحدٌ صحيح لا ينفصم، وقنواتٌ يُفضى بعضُها إلى بعض.

بعد نشر سلسلة مقالاتى عن «ڤان جوخ» قبل سنوات، كتب أحدُهم تعليقًا يقول: «مشكلتنا الرغيف، وليس ڤان جوخ!»، ولم ينتبه إلى أن تثقيف الروح وإشباعها ضرورة كإشباع الجسد، بل هو المحفّزُ لك لتحصل على ذاك الرغيف. وحين سُرقت لوحة «زهرة الخشخاش» من متحف محمود خليل عام 2010، انقلب العالم واشتعل الرأىُ العام في كل أرجاء الدنيا، فعلّق أحد التعساء قائلًا: «وإيه يعنى حتة لوحة، المهم رغيف العيش»! كأن الفنَّ ضدُّ الخبز، والجمالَ خصيمُ الحياة! أولئك ربما لا يحزنون لو، لا سمح الله، نُهب المتحفُ المصرى، أو تصدّع الهرم! ضياعُ اللوحة أحزننى، لكن تلك التعليقات أحزنتنى، وأفزعتنى معًا! لأن استهانتنا بقيمة الفن تحطم أىَّ أمل في غد أجمل. ولكن، في مقابل هذا المُعلِّق «الرَّغيفىّ»، وصلنى عديدُ رسائلَ وتعليقات تطالب باستمرار مقالاتى عن الفن والتشكيل والنحت، وعن الجميل الحزين «ڤينسنت ڤان جوخ»، الذي منحنا البهجةَ وقد حُرم منها.

إليكم مقطعٌ من أغنية «Vincent»، التي كتبها وغناها «دون ماكلين»، متأثرًا بلوحات «جوخ»، من ترجمتى:

«الألوانُ تغيّرُ درجاتها/ حقولُ الصبح وقمحها الكهرمانىّ/ والوجوه العاصفة بالألم/ ستغدو ناعمةً بريشتك المُحِبة/ الآن أفهمُ/ ما الذي وددتَ قولَه لى/ كم عانيتَ وحاولت تحريرهم/ لكنهم لم يُنصتوا/ لم يعرفوا كيف/ لأنهم لم يقدروا أن يحبوك/ لكن حبَّك لهم كان حقيقيًا/ وحينما اختفى الأملُ من المشهد/ في تلك الليلة المضيئة بالنجوم/ أنهيتَ حياتك كما يفعل المحبّون عادة/ كان علىَّ أن أفهم يا فينسنت/ أن هذا العالمَ لم يرُق لجميل مثلك/ تُصوّرُ المشنوقين في القاعات الخالية/ جماجمَ فوق حوائطَ مجهولة/ بعيون ترى العالم ولا تنسى/ مثل شوكة فضية في زهرة ملعونة/ ترقدُ مكسورةً في الثلج الطاهر».

تذوَّقوا الفنَّ تَصِحّوا. «الدينُ لله، والوطنُ لمَن يحبُّ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم