عادل نعمان
بداية يستحق الأمر منا أن نفصل بين المقدس وغير المقدس، الإلهى والبشرى، ليكون لكل منهما تعامل خاص، وحديث منفصل، فما كان بشريًّا يخضع للبحث العلمى والمراجعة العقلية، والدليل والبرهان، وما كان مقدسًا نراه من خلال التجربة وخصوصيتها وزمانها وبيئتها، والأهم عمر وزمن وصلاحية الأحكام، والقدرة على استمرارها، وإمكانية تنفيذها، والاستجابة إلى وجودها، وتجاوزها إذا لزم الأمر واقتضت الضرورة والمصلحة. وليس الاقتراب والبحث وإعمال العقل في كل ما يصلنا عبر التاريخ بالشىء المخيف، ولسنا الأول ولن نكون الآخر، وليس هذا بخطر، ولا نأخذ عن الأوائل أمرا دون فحص أو دراسة أو بحث، وإلا نكون قد انهزمنا تاريخيا وثقافيا، وتركنا عقولنا دون يقين أو برهان، واليقين سبيل الرضا والاطمئنان، والبرهان حجة الثبات والصواب، إلا إذا ركنت النفوس إلى الإيمان الشعبى وارتاحت وسكنت إلى إيمان الدراويش، الذي يزيح عن العقل فرص التدبر والتفكير، ويطمئن الناس فيه إلى ما نقله القدماء، ولا يكلفون أنفسهم عناء الاستفسار، أو عناء الاجتهاد، ولا يتركون أنفسهم لهزة أو رجفة فكرية، أو احتكاك ذهنى، بل ينأون بأنفسهم دومًا عن هذا رافعين شعار «ممنوع اللمس والاقتراب والعصف الذهنى».

وأزعم أن المقاصد والغايات التي قصدها ديننا الحنيف، وقرآننا العظيم، لم تصل إلى غاياتها أو مبتغاها أو مقصدها، بل قصر المدى، وتأخر المبتغى، وضعف المقصد والمطلوب، ولو كانت على ما أنزلت به منهجًا إلهيًّا دون اقترانها بسياسة البداوة، ونمط حياتهم وأطماعهم في الكسب والاسترزاق لكانت الخاتمة شيئًا آخر، وبلغنا المنتهى من الأيام الأولى للرسالة، وأكاد أجزم بأن الوسيلة والناقل لهما دور مؤثر في صيانة وسلامة المنقول، وأمانة التوصيل، والعجلة أو الإعاقة في الوصول، من البداية حتى النهاية، وكأن حظ الرسالة من التصادم والتشابك، وبطء الوصول إلى الغاية، في عهود كثيرة- محمول على الوسيلة وعلى الناقل، وهما شيوخ السلطة والسياسة، أصحاب المصالح والمنافع، ولم يكن مأمونًا في ظل هذه المصالح والمنافع والسياسية حسن النوايا وصدق العمل والإخلاص،، ولربما قد بدلوا منهج الدعوة الإلهى بمنهج بشرى طامع شره لحقوق الغير.

ولقد ساعد تقديس التراث البشرى، وعزل المقدس منه عن حركة التاريخ والتجارب الإنسانية، ومسايرة العلم والعقل، والتفاعل مع ما يستجد من قيم ومن نزعات إنسانية، ومن تواصل عقلى، يتيح المفاضلة والاختيار الموضوعى- على الجمود والثبات والعزلة حتى عن البلدان والشعوب التي جرفتها، فما زال حتى اليوم يؤمن الأحفاد بالسيف منهجًا للإقناع وليس المنهج العلمى الذي يتناولونه في أعمالهم، وفى وسائل التقنية الحديثة بين أيديهم، حتى أضحى من كان يثور على التقاليد الجامدة والمعتقدات الموروثة والعقول المتحجرة والتسليم بما ورثه من الأجداد في الجاهلية، أصبح هو نفسه أسيرا ومحاطا بنفس الأسوار التي حرض يوما عليها، وثار بالدعوة ضدها، بل اعتمد التجربة الأولى للرسالة والدعوة وكأنها أمر إلهى، وليس الأمر كذلك، فقد تشابكت المصالح وتداخلت المنافع بفعل الحاجة والضرورة، واستباحتها السياسة، وما كان لها أن تستباح، وفرضت عليها خيوطها وما كان يجب أن تفرضها، وأملت شروطها وما كان يجب أن تمليها، ولم يتجاوز الأقدمون هذا الظرف ولم يتنازلوا عنه بل غالوا وأسرفوا في تأويل وتفسير النص بما فرضوه على الناس وعلى الدين، بل أجبروا الزمان والمكان أن يقفا عند نقطة محددة لا يتحركان ولا يفوران ولا يرفضان، وأورثوها إلى سلف عن سلف عن سلف، وكأن هذه الصنعة التي صنعها الأقدمون وهذا العزل الذي فرضوه قد وضعنا في أزمة ومحنة، محنة الخروج من المحنة، وتوقف مشروع نهضة العقل الذي بدأه المعتزلة،، وحلت محلها السلفية الأصولية وخرجنا من حركة التاريخ، وترسخت ثقافة البداوة من القتل والتفكير والسلب والنهب، وأصبح قدوة أطفالنا إما قاتلا على نهر فارس أو قاتلا على مشارف الأندلس، أو بلاد الأمازيغ. وحين نقول ارفعوا عن ديننا هذا الغطاء، وحرروه من هذا الاحتلال البدوى، ومن دائرة الالتباس وسجن السياسة والسياسيين إلى رحابة العقل وحرية الفكر- نكن قد هدمنا ثوابت الدين، ولسنا كذلك.

وحين نقول إن للأحكام ظروفًا وزمنًا لا تتجاوزها، فلسنا متجاوزين النص، أو متخاصمين مع الدين، فلقد كان الناسخ والمنسوخ إحدى علامات هذا التجاوز الذي فرضته الحاجة، واستجاب له المشرع وكأن هذا هو أحد أسباب تواتر التنزيل، ونزول القرآن آية وراء آية وما دام الناسخ قد نسخ المنسوخ وقت النزول، فمن ينسخ المنسوخ بعد النزول وإتمام الرسالة؟، فليس من المقبول ثبات الأحكام مع تغيير الظروف والأحوال، وما كان متحركا أثناء الدعوة ما زال بعده على حركته ويزيد، وهذا ما نقصد بعمر الحكم، أو عمر التأويل، وهو سر صلاحه لكل زمان ومكان.. نلتقى الأسبوع المقبل.
نقلا عن المصرى اليوم