عادل نعمان
وكأن أشد ما واجهه «مبارك» وأحزنه، حين وقف متهماً هو وولداه فى قفص الاتهام، وينادى عليهم جميعاً فى وقت واحد، كان أشد ما واجهه فى المحنة، وأصعب ما شق واستعصى عليه فى الكربة، وكان عتابه لهم جميعاً شديداً وقاسياً، وكان مسموع الكلمة، ويعمل له فى ضعفه ألف حساب، بل قل: ظل رئيساً وهو فى قفص الاتهام، يوماً ما سيعرف الناس الحقيقة ودهاليز المحاكمة وأسرارها، وسنعرف مَن فتح له أبواب الهروب ورفض، ومَن حاول الزج بحرمه فى قفص الاتهام ومَن أوقفه، ومَن اتهمه وبالغ فى اتهامه، ومَن أنصفه وأفرط فى إنصافه، ومَن اعتدل وأنصف ولم يفرط ولم يبالغ وكان بينهما قواماً، تاريخ «مبارك» بعد يناير حتى وفاته كان يدار باقتدار دون إدارة، ولعبت فيه المقادير بدقة كمبيوترية فائقة دون تخطيط أو تدبير، حتى ظن البعض أن جهازاً خبيراً وعالمياً ومدرباً يدير أزمته باقتدار، إلى أن تحولت الجموع التى تربصت بالقصر الجمهورى تريد الوصول إليه للنيل منه، إلى جموع تبكى عليه وتندم على ما اقترفت يداها فى حقه، وحتى مات بعد براءة ولديه، والمسامح كريم، فتسامحوا فيما ثاروا عليه، وتنازلوا عما فقدوه وأضاعوه بأيديهم، وعلى أنفسهم وبلادهم دون تعويض، إلا أن إدارة الأزمة كما ظنوا لم يكن يديرها خبراء أو جهابذة، بل كان يديرها بركات الدراويش وأولياء الله الصالحون وغير الصالحين، كما كان يدير بها البلاد ثلاثين عاماً، فسلمت مصر فى عهده وسلم هو من سهام المصريين.

تاريخ «مبارك» ليس تاريخاً خاصاً مكتوباً له وعليه، هو تاريخنا كله خلفاء وأمراء وولاة وسلاطين ومشايخ وملوكاً ورؤساء، وشعباً بائساً مقهوراً منذ آلاف السنين، هو تاريخ كل هؤلاء، الذين حكموه وأتعبوه ولم يتعبهم يوماً، وهجروه ولم يهجرهم يوماً، وظلموه ولم يظلمهم يوماً، ونحن فى كل هذا شعب طيب متسامح ولين ومهاود، كلهم صناعة ضعفنا وتسامحنا ونفاقنا وكذبنا وخداعنا، فمن كان منكم يوماً ليس منهم فليرجمه بحجر، ومن كان منكم يوماً صادقاً وأميناً ونزيهاً فليحاسبه محاسبة الأحياء وليصلبه، براءة «مبارك» عنوان الحقيقة لا جدال فيها ولا إبرام، ودليل دامغ وصارخ على إدانة شعب، وفساد غالبيته وكل نخبه، وهوانه على نفسه، واستخفافه بهم، «فاستخف قومه فأطاعوه»، الهوان آفة شعب، والاستخفاف مرض حاكم وولى، فما استخفوا إلا لما هانوا واستصغروا واستكانوا، فلا تلوموا من استخف ولكن لوموا من خنع وتصاغر، ودعوه يدخل قبره مطمئناً راضياً، وقولوا قولتكم المشهورة من الأجداد حتى نهاية الأحفاد «له ما له، وعليه ما عليه، وهو بين يدى خالقه»، وكأنها قولة حق، أرادوا بها هروب الجميع من الحساب، وحق تطمئن لها القلوب والضمائر، ويركن لها الشعب من آلاف السنين، يرتاح إليها، ويرددها لبعضه على المقاهى وفى المواصلات العامة، وقبل النوم، فينامون جميعاً على الخير والرضا، إلا هؤلاء الأولاد الصغار الذين حاولوا أن يثوروا علينا وعليه فكان الثمن غالياً وعنيفاً.

«مبارك» يا سادة لم يكن أسوأ من حكمنا، بل كان أقل سوءاً من غالبيتهم، إلا أن صبياننا قد جربوا فيه ثورات الأجداد على الظلم، وعوضوهم حين عجزوا وخنعوا، واحتدوا علينا نحن الآباء حين نافقنا وزيفنا وصفقنا ورضينا بالعيش المر لأجلهم، وبعناها لحسابهم، ففتحوا قبور الأجداد يكتبون على الأكفان شعارات الثورة، ودفعونا دفعاً إلى الأمام تكفيراً عن ذنوبنا، وحطموا أسوار سجون الخلفاء والمماليك والمظلومين والمحبوسين ليرفعوا المتظاهرين على أكتافهم، وفتحوا كتب التاريخ يستدعون الظالم والمظلوم، والقاهر والمقهور، والثائر والغافر، يقودون معاً ثورة الثائرين ومظاهرات المتظاهرين، فاختلفوا وافترقوا وتنابذوا وخسروا، حتى ندم من ثار ومن قبع ومن حايد ومن أيد، وترحمنا عليه، وقلنا إنا لله وهو إليه راجع ونحن معه.

الموت عند الفراعنة كله سواء، يسير المظلوم فى وداع الظالم ويغفر له، ويسير الظالم فى وداع المظلوم ويترحم عليه، لا يلتقيان إلا عند الموت، عند الميزان يقتسم الخصوم فى أمن وسكينة وهدوء، اليوم لا يظلم عنده أحد، ولا يفك وثاقه أحد، يدخل الجميع سرادقات العزاء فلا تعرف من له الحق ومن عليه، بكاء الجميع يشبه بعضه بعضاً، وسلام المعزين ملمسه وشدته واحد، حتى ملابس الحداد والعزاء، عزوا فيه وابكوا عليه وعلى أنفسكم، وقولوا كلنا معه إلى الله راجعون، لا نريد حساباً أو عقاباً بل نريد النجاة من بعضنا البعض.

سيدى الرئيس، موتك كحياتك، أوقعتنا فى حيرة معك أو ضدك، انقسمنا فى حياتك وفى مماتك، الفريقان متداخلان ومتلاحمان، المتنافسان يتبادلان الصفوف، من تراه الآن فى صفوف المعارضة ستراه بعد دقيقة واحدة فى صفوف المؤيدين، من تشهده الآن باكياً عليك ستراه بعد قليل شامتاً فيك، ومن تراه سعيداً من إصابة الهدف فى المرمى، ستجده هانئاً وراضياً ومنشرحاً إذا أخطأ الثانية، ندعك إلى مثواك الأخير، ونعود إلى صفوف الجماهير، نرقب وننتظر يوماً نحاكم فيه أنفسنا ونثور عليها، ونستدعى الأموات والأحياء ونهون على أنفسنا حتى يستخف بنا غيرك بقية العمر، وحتى نجتمع جميعاً شعباً ورئيساً بين يدى الله بعد ملايين السنين.

والله لقد بكيت فى جنازته ونسيت ما بينى وبينه وعدت إلى الدراويش والمهابيل وأولياء الله الصالحين وغير الصالحين، وداعاً أيها الرجل الذى حيرنى فى حياته وفى مماته، واهدنا جميعاً يا رب حتى نعرف الصواب من الخطأ.
نقلا عن الوطن