محمد صلاح البدرى
البعض يعمل فى صمت.. ولكنه يصنع بنجاحه ضجيجاً يفوق كل ما تصنعه كل الأحداث الفارغة من حولنا.. فبينما يتناحر الإعلام حول أغانى المهرجانات.. ويتصارع مشجعو كرة القدم حول أحقية الأهلى أو الزمالك فى الفوز بكأس السوبر وتجاوزات اللاعبين من الفريقين.. كان هناك من يكتب سطوراً جديدة من المجد لوطنه فى هدوء ووقار يليق به..!

ففى الوقت الذى كان لاعبو أكبر فريقين فى مصر يتشاجرون أمام ملايين المشاهدين فى العالم العربى.. وعلى أرض دولة شقيقة فتحت أبوابها واستقبلتنا بكرم واضح.. كان الدكتور «مجدى يعقوب» يتم تكريمه على أرض نفس الدولة.. وفى احتفالية راقية.. ليرتدى وشاح الإنسانية فى شموخ وعظمة تليق به وبمصر..!

والحقيقة أننى فشلت فى العثور على السبب الذى جعلنى أتغافل عن الكتابة عنه طيلة هذه السنوات.. ربما لأننى افترضت فى «اللاوعى» لدىّ أنه أحد الثوابت التى اعتدنا عليها كالنيل أو الأهرامات.. أو أنه قد صار إحدى الحقائق التى لا تحتاج إلى كتابة أو تفنيد.. كالحق والخير.. والجمال..!

كل ما أذكره أننى لم أحلم يوماً طيلة حياتى -منذ أن قررت أن أصبح طبيباً- إلا أن أصبح مثله.!!

بل إننى أثق أنه لا يوجد بين ربوع هذا الوطن طالب الطب الذى لم يراوده ذلك الحلم حين ولج إلى تلك الكلية القاسية.. أو أن هناك طالب طب على ظهر هذا الكوكب لم يحلم أن يصبح يوماً فى مثل مكانته..!

هو ذلك الرجل الذى كانت سيرته هى مصدر الإلهام لنا ونحن نتحسس طريقنا فى هذه المهنة.. وأصبح اسمه هو المثل الذى نعبر به عن قمة النجاح..!

هو البشوش الطيب.. «السير» بمرسوم ملكى بريطانى.. ملك القلوب بلا منازع.. أجيال كاملة من طلبة الطب وشباب الأطباء أصبحت تتحسس قصة حياته باعتباره أحد أنجح الأطباء المصريين الذين سطع نجمهم فى الخارج.. وصار اسمه رمزاً لكل من حلم بارتداء المعطف الأبيض يوماً.. حتى قرر هو أن يتجاوز مرحلة أسطورة الطب.. ليخرج إلى فضاء أوسع.. ويسطر فى التاريخ صفحات أخرى أكثر قدسية بكثير.. ذلك حين قرر أن يعود إلى مصر مجدداً فى عام ٢٠٠٦.. وأن ينشئ فى عام ٢٠٠٩ مركزه الشهير لعلاج أمراض القلب للأطفال بأسوان.. لقد تمكن بهذا العمل أن يخرج من خانة الطبيب إلى خانة أخرى تماماً.. وأن يتحول من سفير للطب إلى سفير للإنسانية كلها..!

أذكر أننى قابلته مرة واحدة لمدة ساعة أو أقل.. لم يتوقف فيها عن التواصل مع مركزه تليفونياً كل خمس دقائق تقريباً متابعاً حالة حرجة لأحد المرضى هناك.. وفى الوقت نفسه لم يفقد ابتسامته وهدوءه وهو يتحدث معنا.. فكان قمة فى التواضع.. آية فى الاحترام والمهنية.. المشكلة أن الإعلام لم يلتفت لتكريمه المستحق بالشكل الكافى فى رأيى.. بينما أفرد الساعات فى الحديث حول مباراة لكرة القدم.. وهو أمر يستحق أن نقف عنده.. ويستحق أن نراجع بسببه الرسالة الإعلامية بالكامل.. فالتكريم يعتبر لمصر كلها.. والدكتور مجدى يعقوب قد تحول إلى أيقونة مصرية مشرفة.. أيقونة آمنت برسالتها.. فصارت خالدة رغم أنف المدعين..!

لقد تمكن «السير» المصرى أن يسطر فى التاريخ حروفاً من نور.. وأن يثبت للجميع أن الإنسانية تنتصر على كل شهوات الحرب والكراهية والتطرف الأعمى.. بارك الله لك يا سيدى.. من أجل مصر.. ومن أجل الإنسانية كلها!
نقلا عن الوطن