لا تزال حبوب شجرة الكاكاو مثيرة للجدل والحيرة منذ ظهورها في موطنها الأصلي في الأميركتين وحتى يومنا هذا؛ بدءاً من مشروبها "المر" قبل آلاف السنين لدى قبائل المايا والأزتيك، مروراً ببدايات انتقالها إلى أوروبا في القرن السادس عشر على يد الإسبان، ثم تصنيعها وظهورها على شكل قوالب من الشوكولاتة ذات مذاق ساحر ومثير في العصور الوسطى، إلى أن انتشرت وطغت لتسلب عقول مستهلكيها ومنتجيها في كل أنحاء العالم بصناعة فاقت رؤوس أموالها أكثر من 80 مليار دولار عالمياً، ولتسقط في حبائلها ضحايا يقترب عددهم من 50 مليون شخص يكابدون الفقر ويقاومونه في غرب أفريقيا.

وعلى مر السنين ومنذ بداية التعرف على هذه النبتة تعددت المسميات الموحية بقدر كبير ، فقد أطلق عليها أهالي حضارات المايا والأزتيك بـ"الماء المر"، أما عند انتقالها إلى أوروبا باتت شجرتها تسمى علمياً "الثيوبروما"، أي "طعام الآلهة"، ويبدو أنها كانت تستشرف مستقبل "العبيد" الذين سُخروا لاستزراع وجني محاصيل الكاكاو في أميركا اللاتينية وأفريقيا ولجلبها إلى أوروبا على أيدي المستعمرين الأوائل من الإسبان والإنجليز والفرنسيين.
وحتى الآن لايزال هناك جدل مثار حول حبوب الكاكاو والمبادرات المطروحة لضمان استدامة زراعتها واستمراريتها وهى الحاصلة التى تتميز القارة الافريقية بانتاجها عالميا ، و يرى باحثون أنها تعد بمنزلة "استعمار جديد" يشهده القرن الحادي والعشرين وتدور رحاه في قارة أفريقيا.
 
وفي هذا الصدد، يتحدث الباحث في جامعة كَمبريدج، مايكل إي إوديجي، في مقال نشره هذا الاسبوع ، إنه استعرض البرامج المستدامة التي صُممت لدعم مزارعي الكاكاو في غرب أفريقيا، لافتاً إلى أنه أعد بحثاً مطولاً في هذا السياق استهدف تعيين الرابحين والخاسرين في تلك الصناعة المثيرة للمتعة والبؤس في آن واحد.
 
ورصد إوديجي عدداً من المبادرات المختلفة التي طرحت خلال السنوات الأخيرة ومن بينها مبادرة "تحرك من أجل الكاكاو"، وهو نموذج مستدام بقيمة 500 مليون دولار، أطلقت عام 2014 بغية مساعدة مزارعي كوت ديفوار وغانا على تحسين مستوى معيشتهم وتلبية احتياجاتهم وتنويع مصادر الدخل لديهم.
 
وخلص د. أوديجي، في بحثه الذي نشر أجزاءً منه العام الماضي و استكمل فصوله قبل ايام ، إلى أن تلك المبادرات المستدامة التي طَرحت من أجل ضمان مصالح الشركات العالمية الكبرى المتعدية الجنسيات، ولم تسهم بالضرورة في إقالة عثرات المزارعين في غرب أفريقيا ولا إخراجهم من أتون الفقر، ولكنها استهدفت استمرارية مزارع الكاكاو والحيلولة دون "تنويع" المزارعين لمنتجاتهم والتحول إلى استزراع منتجات أخرى أكثر جلباً للدخل كالمطاط، وجوز الهند، وزيت النخيل، والفول السوداني.
 
كانت أكبر عملية "تنوع" قد حدثت أثناء أزمة الكاكاو الشهير التي شهدتها غانا في السبعينيات، إذ تزايد إنتاجها من الحبوب من 388 ألف طن في موسم 1964/ 1965 ليقفز إلى أكثر من مليون طن في موسم 1983/ 1984، وهي الكميات التي تراجعت مرة أخرى بمجرد إحياء زراعة الكاكاو مجدداً. وحدث الأمر ذاته مع منتجات أخرى مثل جوز الهند، وزيت النخيل، والفول السوداني.
 
غير أن محاولات "التنوع في الزراعة" داخل منطقة غرب أفريقيا باتت "محظورة" أخيراً بسبب ما وصفته الدراسة بسطوة الشركات العالمية الكبرى المتعدية الجنسيات المنتجة للكاكاو والشوكولاتة وبعض المعنيين بصناعة الشوكولاته وتجارة الكاكاو على مستوى العالم الذين يضغطون لمواصلة استزراع المزيد من أشجار الكاكاو. وقد أقرت تلك الشركات علانية، وبصراحة تحسد عليها، بأن التنوع يشكل خطراً على أنشطتها وأعمالها التي تقدر بمليارات الدولارات، لذا فإنها تواصل ضغوطها لخلق المزيد من مزارع الكاكاو.
 
تاريخياً .. يستزرع الكاكاو في منطقة غرب أفريقيا من خلال نهج زراعي يعرف بـ"زراعة القطع والحرق"، حيث يتم الإتيان على الغابات وقطع أشجارها ونباتاتها الاستوائية وحرقها قبيل بدء عملية الاستزراع لأشجار الكاكاو، وعندما تفقد التربة خصوبتها وإنتاجيتها، ينتقل المزارعون إلى بقعة أخرى من الغابات لتكرار الأمر ذاته مجدداً.
 
وفي العادة، توفر الأراضي الجديدة لمزارع الكاكاو، تربة خصبة، وظروفاً مناخية مواتية ومفضلة، وقليلاً من الآفات والأمراض. وتصبح زراعة أشجار الكاكاو يسيرة بأقل عدد من العمالة الزراعية وتدر مداخيل أكبر.
 
ويقول الباحث إن هناك انتهاكات كثيرة تعتري عمليات زراعة الكاكاو في غرب أفريقيا علاوة على مسألة ازالة الغابات، فإن معدلات تهريب الأطفال واستغلالهم قفزت بصورة هائلة. وكانت تحقيقات جرت منذ عام 2000 قد كشفت أن الكاكاو الإيفواري يعتمد على مناطق تدخل ضمن المحميات الطبيعية. فزراعة الكاكاو تسيطر على نصف مساحة "متنزة مونت بيكو الوطني" الذي كان مخصصاً للأصناف المهددة بالانقراض. علاوة على ذلك، فإن "متنزه ماراهوي الوطني" اختفى تحت وطأة زراعات الكاكاو منذ عام 2000.
 
وانحسرت مساحات الغابات في كوت ديفوار بصورة حرجة، إذ هبطت من 16 مليون هكتار- نصف مساحة البلاد تقريبا- في عام 1960 لتسجل مليوني هكتار في عام 2005. والمعروف أن كوت ديفوار تحتل صدارة العالم في إنتاج الكاكاو مستأثرة بنسبة 43 في المائة من الإنتاج العالمي، فيما تهيمن بلدان غرب أفريقيا على نحو ثلثي الإنتاج العالمي من الكاكاو.
 
أما في غانا، فقد تمكنت الحكومة، عبر "مجلس تسويق الكاكاو" COCOBOD، من إدارة عملية التحول بنجاح من نهج الزراعة بقطع الغابات وحرقها إلى أسلوب المزارع المستقرة ، ونظمت الحكومة الغانية برامج رش عامة للسيطرة على الآفات والأمراض التي تصيب الأشجار، كما قدمت دعماً للأسمدة المستخدمة، وأطلقت سياسة سعرية تقدم من خلالها أحياناً أشكالاً من الدعم للمزراعين.
 
وفي ضوء توفير الحكومة لمزيد من المدخلات المجانية ومشاركة عدد من المؤسسات الكبرى المتعدية الجنسيات ومنظمات المجتمع المدني، فإن مزراعي غانا لم يصبحوا أكثر فقرا عن ذي قبل. غير أن ذلك النهج أدى إلى أن "مجلس تسويق الكاكاو" غدا مثقلاً بديون هائلة، فعلى سبيل المثال تكشف ميزانية عام 2017 أن إجمالي ديونه بلغت ملياري سيدي غاني، بما يعادل نحو 367 مليون دولار أميركي جراء دعم أسعار الكاكاو في ذلك العام.
ورغم إفلات مزارعي غانا من الفقر، فليس من الواضح تماماً ما إذا كان قطاع زراعة الكاكاو في غانا يمثل قصة نجاح، على حد قوله، فالتحول الذي استند إلى نهج تمويل الديون خلق نجاحاً مصطنعاً في ذلك القطاع.
 
ويلخص الباحث أوديجي روشتة الحل في ضرورة التحول والبعد عن زراعة الكاكاو والاتجاه صوب محاصيل أخرى لا تحتاج إلى أراضي غابات (سواء جديدة أو مستنفدة)، أو أسمدة إضافية، أو المزيد من الأيدي العاملة، لافتاً إلى أن البحوث برهنت أن مزارعي الكاكاو في كوت ديفوار ممن تحولوا عنه إلى إنتاج محاصيل أخرى، كالمطاط مثلاً، تمكنوا بنجاح من الإفلات من دائرة الفقر وعذاباته.
 
لكن مثل هذا النجاح بات في عيون شركات صناعة الشوكولاتة العالمية الغربية يشكل تهديداً خطيراً يعترض طريق الكميات المعروضة في الأسواق من المادة الخام، وهو ما عبر عنه ممثل عن شركة عالمية كبرى متخصصة في صناعة الشوكولاته بقوله "عدوِّي ليس المنافس الذي يسعى لشراء الكاكاو، بل هو صناعة المطاط."
 
وينصح أوديجي في نهاية بحثه دولتي غانا وكوت ديفوار بضرورة التفكير ملياً في ما هو أفضل بالنسبة لشعوبهما بدلاً من التركيز على ما هو أفضل بالنسبة لصناعة الشوكولاتة ومستهلكيها في البلدان المتقدمة، معرباً عن أمله أن تُغلِّب حكومات تلك الدول مصالح مزارعيها الفقراء بدلاً من التركيز على توفير "طعام الآلهة" الذي يبعث البهجة والسعادة في نفوس أثرياء أوروبا وأميركا، اللتين تستحوذان على أكثر من 85 في المائة من إنتاج الشوكولاته في العالم، بينما يترك وراءه جموعاً حاشدة، ممن يقتاتون على زراعة الكاكاو في غرب أفريقيا ويقدر عددهم بنحو 50 مليوناً، ولا يزالون يقعون فريسة للفقر والبؤس ويزدادون فقراً عمَا كانوا عليه في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي .