تأليف – روماني صبري 
الآن فركت عيني على حين فجأة بسبب "الشري" اللعين، رباه لكم كنت قريبا من افتراس لحمي بأسناني لأحرره من عظامي... أن ذلك المرض ليحنقني، فمنذ سنوات كثيرة مضت فور إصابتي به كنت لا أمل من الذهاب لأطباء الجلدية لكني عدلت عن ذلك الآن ربما مرد ذلك الملل اللعين وكوني أصبت به فترة شبابي ، ها بعد انقضاء دقيقتين أخذت أهذي إنني لو تزوجت ثانية لكنت وجدت زوجتي برفقتي وأنا بحاجة لحقنة "كورتيزون" ..ربما كانت نجحت في منعي عن الثرثرة ... أنا الآن بالمستشفى وعلى الطرف الآخر يرقد وزير سابق على سريره الفاخر منهكا اخبروه انه مصاب بالشري أيضا، يعاني كما أعاني من ضيق التنفس ويحتاج للكورتيزون الذي منعوه عنا واستبدلوه بمضادات "الهيستامين" عديمة الفائدة، لكم هو جميل حين يتحدث الأطباء دون لف أو دوران.. بين الحين والحين ينكمش وجهي واشرع أتحدث ببذاءة وقتها اعلم علم اليقين انه لو أدركت ذبابة فظاظة حديثي لبصقت في وجهي أن استطاعت ذلك !، ورغم كل ذلك لن أستشير طبيب نفسي والله فقط يعلم صدق ما قلت لأنني ارفض الشفاء من مرضي، نعم سأكررها ثانية أنا ارفض الشفاء من مرضي لولا شيخوختي وأقاربي البغضاء  ... لكم تمنيت أن يتحدث ملاك الرب العظيم من السماء ليخبر البشر في كل بقاع العالم بصوت يخترق الآذان عن شري وندمي وكم أتكبد مشقة ذلك حتى أولد من جديد ... سأتوقف الآن عن مخاطبة نفسي، اسمع أقدام الممرضة تدب على ارض الصالة المؤدية للغرفة نعم أنها الممرضة لقد الفت ما تحدثه من ضجيج ، إذ تضاعف ذكائي بعد المرض! .
 
 الغرفة تزخر بالهدوء، صديقي المريض نائم ربما يحتضر ؟ على أي حال فليتغمده الله برحمته وليبارك ابنته الجميلة ولا يوقظها الآن فأن اكتفت من النوم ستشرع تحدثني بقولها بعد أن تنهض من سريرها المستقر بجوار سرير والدها : هل تحتاج شيئا يا والدي ؟ ، فأجيبها بقولي : كل الشكر لك يا جميلة ولكن صدقيني إن احتجتك لن اخجل في طلب مساعدتك... أقول ذلك ومرارة دميمة تعتصر قلبي فأنا العجوز ذو الخامسة والسبعون من العمر لم أنجب ورغم ذلك لازلت أتمتع بحسن الهندام واللباقة ... ربما قدوم الممرضة مرده كاميرا المراقبة بالغرفة ربما رأتني وأنا احك جسدي، كم عاملتنا بحنو وعطف شديدان انه أجمل ما في الثراء ... أن الإنسان ليفسد روحه بنفسه، وليعلم الله وحده كم أميل لهذه الحقيقة، انه ما يجعلني ارفض الدفاع عن المهانون فأضحك ملء أشداقي مدركا أشد الإدراك أننا سنظل نتباكى ونهول من الأمر مادمنا على قيد الحياة فاقدين لذتها .. انه لمجتمع مريضا لا يملك أصحابه أعصابا إلا من حديد وها أنا على رأسهم حتى الذين يرفضون وجود الله يتحدثون عنه، أن أكثر ما يدعو للخجل والعار تلك الكلمات الصادقة التي هربت منا دون أن ندري فأحدثت ضجة ، لقد عاهدت الرب كثيرا أن تذهب حياتي صوب الحق ، تضرعت له أن يترك الأمور تمر لصالحي ، ولكن لم تمر الأمور بشكل جيد كما تعودت دائما لحكمه يعلمها وحده .
 
 نحن نعلم ونثق كل الثقة أن إخفاء مشاعرنا إثم كبير ، لا احد يصير قويا دون أن ترهقه التجربة ، الإنسان كائن تافه وربما سيظل هكذا إلي الأبد خلصت إلى ذلك عندما أجدت الطهي كنت ممدا في سريري وعلى حين فجأة تملكني غضبا اجهل أسبابه، لن نعود كما كنا ، سألعن كرة القدم كوني كرهتها مبكرا ، حاولت الإقلاع عن تدخين التبغ ، ومضغ العلكة وفشلت ، يجب أن نري في أنفسنا شيء آخر يدعونا إلي احترام صور طفولتنا ... لم أكن على هذا النحو ، طيلة حياتي دربت نفسي علي اعتناق السعادة ، منذ طفولتي اضحك ، كنت أراقب أمي وهي تحيك جوارب أبي ونظرها الضعيف يعيق دخول الخيط داخل ثقب الإبرة ، لقد تجاوزت الحزن منذ الصغر ، أدمنت العاب المراهقين ، قراءة المجلات المصورة ، تناول القهوة مثلجة مع العنب كنت غريب الطباع لذلك عرفتني السعادة ، من الجيد أن تشعر بالسعادة برفقة نفسك وان لم تشعر بذلك فعليك بالانتحار ، لن يفعل بك الانتحار أكثر مما فعلته بنفسك، لطالما اختلست النظر في "دينا" جارتي كنت اعلم أنها تحبني لكن البنات الصغيرات دائما ما خبئن أسرارهن داخلهن ، عكسنا معشر الرجال.
 
في يوم كنت أساعد أبي في ترميم واجهة منزلنا ومرت أمامنا الجميلة صاحت : هل تحتاجون مساعدة ؟ لقد أدركت أنها تحبني لا يوجد أجمل من أن تحب وأنت صغيرا ، أن التجارب تفسد كل شيء في بداية الأمر ، نحن تافهون جدا والله يجب أن يراعى ذلك ... لقد غيبها الموت ؟! ماذا ستفعل في العالم الآخر دوني ؟! من سيمشط لها شعرها الطويل ويقبلها من رأسها مثلما كنت افعل ؟! لقد كانت تحب عصير التوت من يدي ، كنت امسك مرآتها لها حين تلون شفتيها بأحمر الشفاه من اجلي وتبتسم قائلة لي : زوجتك تحبك .. اخبرني صديق أنها سعيدة الآن في السماء، قبل أن تموت بدقيقة واحدة قالت لي لا أريد أن أموت ..  أريد ألبقاء معك .. الحزن يعتصر قلبي اشعر إنني أقوم بخيانتها عندما اذهب واصلي إلي الله كي يمنعني من الانتحار ! لم تقتلني شركتي عندما احترقت بالكامل لم يدمرني موت أبي ، قلت انه عجوز ومن الطبيعي أن يموت الكبار الذين في مثل عمره ماتت أمي وقلت من الطبيعي أن تموت بعده كي يلتقيان في السماء، قالت لي نانسي وهي تحتضر لروح أمك السلام.
 
باتت حياتي الآن مثل مجنون يضع انفه بجوار مؤخرة فيل وهو يقضي حاجته ..من الجيد أن تكون الحياة قصيرة ، الله يعلم كوارثها جيدا لقد القي جاري بنفسه إلي الشارع من بلكونة شقته ، سقط علي الأرض ، تجمعت القطط حوله ولم تلعق دماؤه ، تهشمت رأسه فخرج مخه من حبسه ، صرخ قائلا : لقد قتلتني الشيطانة، وعلى اثر ذلك مات بعد أن ضاق ذرعا من خلافاته مع زوجته، في الليلة نفسها رايته في حلم وهو يحدق في واختصني بقوله : لا لا... لم أمت جاري العزيز أنت تختلق أمور لم تحدث.. أتجربة موت زوجتك تجعلك كاذبا ؟!.
 
بالفعل جعلتني التجربة كاذبا ومتناقضا ، هذا الرجل الجديد الذي أصبحت عليه سوف يقتلني ويلقي بي داخل الجحيم ، سوف تفرح الشياطين بروحي الهالكة ، أتخيل كثيرا أن الله يمد يده لي وعلى حين فجأة أطير فالتقي زوجتي في مكان غير قاسيا لا يعرف الدمامة فأسرع اقبلها وحين انتهي أقول لها :" لسنا في حاجة لممارسة الجنس كونها تدرك افتقادي للخجل ... لا أتذكر أين قرأت هذا ربما في قصة كتبها احد الفاشلين " نحن نتنفس ، نشعر بمن حولنا ، نقدر الكلام العذب ، نرفع قبعاتنا للفن ، نحترم الجمال ، نطعم الكلاب والقطط لحوم الدجاج والبقر ، نفرح بجنس العصافير ، نقدس عناق الحيوانات ، نقبل الكتب السماوية ، نبكي علي الجزء المؤلم في حياة المسيح علي الأرض"، يا له من كاتب محتال يتقد خبث !. ليس هناك أقبح من أن يصل رجل إلي ما وصلت إليه ، تمنيت أن أكون حياة لا قيمة لها، ظلام حالكا هادئا، أن اخطف كل اليائسين، يجب أن يراعي الله ضعفنا نعم اكرر ذلك، جراحي لم تلتئم ، صوتي أصبح مخيف ، أصابني الصلع ، استحم كل أسبوع فقط، ذكريات تطاردني تذكرت توا كم كنت أتباهى بقوة أسناني حين كنت استخدمها في فتح زجاجات الكولا أمام والداي لكم كنت شريرا نرجسيا منذ الصغر.
 
المرء يعيش حياة الإثم حين يوجه الأسئلة إلى الله ، ليس من الصعب فهم هذه الحقيقة ، هكذا يتحدث رجال الدين، صباح اليوم اخبر الوزير الأسبق ابنته انه ذات يوما عاد إلى المنزل قبل يعتلي منصب المعالي بعامين ووجد أمها تغط في نوم عميق وكانت الفضائية الأولى تبث لقطات حية لمؤتمر صحفي لممثل عربي شهير على هامش عرض فيلمه الأخير في البلاد، وواصل يقول لابنته دون خجل :" كان يشبهني كثيرا يفتقد خفة الدم وإطلاق النكات، وجدته حلوفا مثلي، توجه حديثه صوب سحر فيلمه وعظمته رغم زخره بالزيف والتلاعب بالتاريخ، حتى جعلني احمل التلفاز وأسقطه بقوة على الأرض، فنهضت والدتك مفزوعة وكادت تبصق في وجهي.
 
لم تناقشه ابنته وتركته يستكمل حديثه :"اعلم أن الجانب الايجابي داخلي اخذ يتوارى حتى تلاشى تماما ، بسبب ضعف إيماني وحبي للنقد ، لكن والحق يقال ، لازلت أحب أمك كما إنني لم أتسبب في وضع حجر الأساس لحياة سيئة بيننا ، رأتني مغفلا وطلبت الطلاق ذات يوما، وقتها صبت لي الشاي في الفنجان وناولتني إياه شربته على مهل رغم انه لم يكن محلى بالسكر تعمدت ذلك ولها الحق كنا زوجين كرهين، كانت تقف كثيرا أمامي خاضعة حتى لا استخلص حقيقة المأساة ، لكنها رغم ذلك تحبني ، أدرك ذلك جيدا وأنا أحبها وأكن لها كل الاحترام ، عندما جاءت من العمل غاضبة في يوم شعرت أنها ستحمل سكينة لتنهي كل شيء ، لم يكن بمقدورها ألا الصلاة ، خير ما فعلت كانت شابة صالحة ... أنها طليقتي الجميلة ألان.
 
اشعر بضيق، تعتريني نوبات عصبية ، تسارعت أنفاسي ورحت أفكر وأفكر في كتابي الذي سينشر قريبا وفيه أتحدث عن فنون الطهي ، توقف العجوز برهة ليقع بعدها في نوبة ضحك هستيري لازال فكها ويستطيع إطلاق النكات لنفسه، كان يعلم غايته لكنه عرج وضل وكأنه مكتوب وفقا لتفسيراته إذ أكد لطلابه مرارا مرارا انه من الإيمان أن يستقيل الإنسان من عمله حين يستعين بخادمة لتدير شؤون منزله بعد موت زوجته عقابا له وفوق ذلك فليصمت حتى يعرفه الموت، لكنه رغم ذلك باق في وظيفته ، أحب أن أخبركم انه حاول كثيرا لكن الفروق بين البشر كانت تقف له بالمرصاد، سأقول صادقا أن أكثر ما يؤرقنا هو التعجل والغوص في الحزن، عن هذا الأمر يقول بطلنا العجوز وجب علينا محاربة ذلك إذ شعر بالحزن والعار والخزي حين اشتهى الممرضة في أحلامه فاستيقظ باكيا وراح يقول :" مستحيل .. مستحيل انأ في قرارة نفسي حقيرا ووغدا أيضا ؟! إذا سأعذب نفسي وأذلها واطلب عدم الغفران.. أنا لست مفلسا ولا مصاب بالاكتئاب الشديد ليحدث لي ذلك ، سوف أغادر المستشفى غدا لأعود لتدريس الفلسفة ، اعلم أن حديثي لنفسي كريها ، لكني أجد في الأمر متعة، أن البشر لطيبون ويغالون كثيرا حتى أننا رفضنا أن ينتشلنا تافها من هذا العفن فرحنا نمجد أخلاق هذا الممثل دميم الروح مدمن الأخلاق والوعظ إلى جانب تقديسنا لتشي جيفارا... لان هؤلاء الرائعون مثل زوجتي ماتوا في صمت ، لم ترى أعمالهم النور، كان لابد أن نربت على أيديهم كثيرا، لم يصطحبهم ملك العالم خارج غرفته دون اهانة ، أناب عنهم فشل وحظ سيء دائما ، طوبى لهم حتى وان كان الجحيم نهايتهم . 
 
ربما أغالي مثل المراهق الذي اعتزل الكتابة قبل أن يتم التاسعة عشر من العمر ، بعد أن ضاق ذرعا من انتقاد لجنة التحكيم له والتي كانت تضمني، أسلوبه كان بائسا حقا ورديئا حيث شرع يقول بعد اعتلاء المسرح :"لم يكن العالم في تكوينه الطبيعي منذ البداية .. انه عالم يجهل الحقيقة منذ البدء، كشعور أحمق يكنه قاتل لضحيته .. نحتجب ونصمت، وعلي الجانب الآخر فوضى عارمة أخرى من البشرية تكتب عناوين علي شواهد القبور .. الموت رغم ذلك يجمل عالمنا الزاخر بالضجيج والوهم والشهوات البائسة .. كثيرا شاحب عالمنا ممتلئ برعب في جميع ساعاته .. يترنح كثيرا بنا ! لعلة قد نسي إننا مثل فقراء الهند عندما يتسلقون قطار درجة ثالثة ... انه العالم الذي يظل مزروعا ويحولنا لخردوات قديمة بعد مرور الزمن .. انه جميل عندما يجعلنا قطاع طرق ويسرق منا الأفكار ويلف الرؤوس بقفل تصعب السيطرة علية .. هناك الكثير من الأسئلة أهمها كونه يصعب السيطرة عليه.. جيد حين يمنحك سمعة طيبة وبزة ذهبية وقد يأخذك ويتجول بك لترى لذة الوجود حتي تترك أباك وأمك وبقدر البراءة وبالنهاية نرحل ونترك له كل شيء .. أولادنا كتاباتنا أفكارنا زوجاتنا لعل الأرض تتذكرنا ! لعل الأحاسيس الطيبة تتذكر كم كنا اكبر من هذي الأشياء ! والطرق الغامضة من أين تأتي بالغموض بعدنا ! ﻟﺪﻳﻚ ﺧﻤﺲ ﺩﻗﺎﺋﻖ أخرى ﻟﺘﻌﺘﺮﻑ ﺑﻘﺬﺍﺭﺓ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﻭﺩﻗﻴﻘﺔ أخري ﻟﺘﻜﺘﺐ ﻋﻨﻮﺍﻥ ﻋﻦ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻔﻀﻴﺤﺔ ! عندها فقط سيضرب العالم أردافه ويزمجر كونه محدود في النهاية مثلنا...ولو إنني مثلا من احد أقارب هذا العجوز الثرثار،لكنت تركته وحيدا احتراما لرغبته، فأن عدم تحقيق رغبات المرضى لأشد قذارة من المرض كما يقول، شقيقته لازالت لا تستطيع الذهاب لرؤيته في المستشفى انه وغدا عنيدا لكن فلنحمد الله على انه من ضمن هؤلاء البشر واسعين الثراء .
 
عاد العجوز إلى منزله وشرب الخمر في نخب نفسه، دون أن يشعر بخجل، غلبه النوم، وفي الوقت نفسه تعبت قطة من التسكع في أزقة الحي الكبير، فأخذت تنظر السماء ولا استطيع ترجمة مرد ذلك، في نهاية كل حدث تنتشي الروح وتصمت، الجياد تفقد براعتها في شيخوختها ورغم ما قلت لا ينبئ هذا بالنهاية، نبشت القطة التراب ثم راحت تقطع الطرق حتى توقفت أمام منزله ، قامت بالمواء مدة عشرون دقيقة ، حتى استيقظ العجوز واخذ يذرع غرفته طولا وعرضا كان يتمايل مخمورا، في نهاية هذه الليلة لم يبالغ كثيرا حيث منح للقطة صحن من اللبن وسمكة ثم أغلق بابه وقال " أنها قطة .. خارج كتالوجنا البشري وأنا مخمور هذا كل شيء، لم يقل وقتها أن جرعه الخمر حوله لشخص عظيم.
"تمت"