عادل نعمان
التراث فى فكر بن باز «على ما فهمت منه» يبدأ من كتاب الله وسنة نبيه، وهما أصل التراث وأساسه، مرورًا بالفروع وهى الكتب الإسلامية المشتملة على تفسير كتاب الله، وبيان معناه، وسيرة الرسول وغزواته، وكتب الأحاديث «المرويات» عن الرسول كالصحيحين البخارى ومسلم، ومُوطَّأ مالك، وسنن النسائى وأبى داوود والترمذى، ومسند أحمد بن حنبل، وصولًا إلى المخطوطات الفكرية وكتب العلوم الشرعية كالتفسير والحديث والفقه، وكتب أهل الفرق الكلامية، وهو بهذا قد جمع المقدس والبشرى فى تعريف واحد، وهذا خطأ فى تصورى، أن يتعامل الناس مع المنتج البشرى كما يتعاملون مع القرآن الإلهى، ويطالهم جميعًا النقد بقصد أو بغير قصد، وربما كانوا يهدفون من هذا الترهيب عدم الاقتراب من التراث بمجمله حرجًا وخوفًا أن يمس هذا الاقتراب القرآن الكريم، فيمر ما كتبوه بأيديهم على الناس مرور القرآن المنزل من عند الله، ويصيبهم من التوقير والتعظيم ما أصاب القرآن العظيم، ولما كانت القاعدة العلمية فى حاجة إلى دليل وبرهان، كان لزامًا أن تخضع المرويات التراثية لهذه القاعدة، أو على الأقل لاتفاقها مع العقل وتصديقها، فالأصل فى التصديق هو أمانة السرد والنقل والتأكد من سلامة وحقيقة واستقامة المعروض، وقبوله وتصديقه، وذلك لمتانة البنيان الدينى الذى بنيت عليه الرواية، فأصبح التراث كله محل بحث وفحص، وإثبات وتقديم الدليل والبرهان، وهو أمر معجز، فالتراث فيه الكثير من الروايات لا يقبلها العقل، ولا برهان ولا بينة عليها، وربما كانت سعة التصديق على ثقة الرواة يومًا، ومع الأيام ضاقت هذه السعة لحساب الشك والتكذيب، ولم يبق لنا سوى قبول الروايات التى يجيزها العقل ويتقبلها المنطق من التراث كله.

ولما قالوا إن الرسول قد أمر بعدم تدوين الحديث، كما جاء فى الصحيحين، ورواه أحمد والترمذى والنسائى «لا تكتبوا عنى، ومن كتب عنى غير القرآن فليمحه، وحدثوا عنى ولا حرج» بل جاء عن راوى الحديث نفسه «أبوسعيد الخدرى» بأنهم حين استأذنوا من الرسول فى كتابة الأحاديث، لم يأذن لهم والتزم الخلفاء الأربعة بالأمر، فهذا أبوبكر يقول «فلا تحدثوا عن الرسول شيئا، ومن سألكم بينكم وبينه كتاب الله» وهذا عمر استشار الصحابة على جمع السنة القولية ووافقوا، وحين همَّ بجمعها تراجع حين ذكره بعضهم بالحديث، وعثمان جمع القرآن ولم يجمع السنة وربما راودته الفكرة وانصرف عنها، وعلىٌّ، وهو أكثر من سمع من الرسول، والغريب فى الأمر أن كل رواة الأحاديث دونوا هذا الحديث وسجلوه فى كتبهم، وخالفوه، وخرجوا عن أمر الله «وما نهاكم عنه فانتهوا» وأمر رسول الله «لا تكتبوا عنى»، وهو حديث صحيح قطعى الدلالة والثبوت، متواتر ووجب اتباعه والعمل به، فلماذا خالفوا أمر الرسول؟ وأوقعوا أنفسهم فيما خاف منه، ودونوا الأحاديث بالمخالفة لأوامره؟ مخافة أن يكذب عليه أحد، وهو السبب الوحيد للمنع وليس غيره، وهذا واضح فى باقى الحديث «ومن كذب علىَّ فليتبوأ مقعده من النار».

ولما كان هذا الحديث مانعًا وحائلًا عن التدوين والتسجيل للسنة النبوية فى حياة الرسول، فاستوجب الأمر البحث عن علة وسبب ومبرر آخر للمنع غير ما صرح به، حتى إذا زالت العلة، وانتفى سبب المنع والتوقيف، يكون التدوين مباحًا ومسموحًا به، بل وجب على المسلمين ذلك، وجاءوا بعلّة حتى «لا يختلط الحديث بالوحى»، وهو سبب غير مقبول أن يختلط كلام الله مع كلام البشر، حتى لو كان من الرسول، والفارق كبير بين لغته البشرية وبين الوحى وهو لغة القرآن، وبين ما جاء من عند الله وما جاء من عند الناس، وقد نص القرآن على ذلك فى الآية «أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ»، وكذلك الآية «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»، وكذلك الآية «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا» وأيضا الآية «الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْده الْكِتَاب وَلَمْ يَجْعَل لَهُ عِوَجًا»، وآيات كثيرة تؤكد خصوصية القرآن، وأنه محفوظ لا يختلط بمنتج بشرى، مضمون ومصون لا يمتزج بغيره حتى لو وضعوهما معًا فى وعاء واحد، ولا يلتبس الأمر عند أهل الجزيرة، ولا يتشابه عليهم، وإلا فلا إعجاز للقرآن إذا صعب أو غمض على الناس التفرقة والتمييز أو الفصل بينهما. وإذا كان بعضهم قد خرج علينا بزعم أن جبريل كان ينزل على النبى بالسنة كما ينزل بالقرآن فلماذا لم يدونها النبى وفرق بينهما فى التدوين، هذا قرآن وهذه سنة، أو جعل من الصحابة من يدون هذا ومن يدون ذاك، طالما جاءت من عند الله؟!. نلتقى الأسبوع المقبل.
نقلا عن المصرى اليوم