عاطف بشاي
مازال عقد الزمن الجميل ينفرط.. ويتوالى رحيل نجومه البراقة.. فغابت «نادية لطفى» إحدى أجمل وأينع زهرات ذلك الزمن الفياض بالمواهب والعطايا الثمينة.. وقد كانت تشع وهجًا وألقًا وحضورًا طاغيًا جعلها إحدى هدايا العصر الذهبى للسينما منذ أن اكتشفها المنتج الكبير «رمسيس نجيب» وانطلقت لتقدم بعدها فى مشوار طويل الأدوار المتنوعة والثرية تعدت الخمسة والثمانين فيلمًا حرصت من خلالها على تحدى النمط (الهوليودى) والتمرد على ملامح الشقراء البيضاء ذات الملامح الأجنبية لتصبح ومعها «سعاد حسنى» تعكسان روح الشخصية المصرية فى طبيعة الأدوار المختلفة.. كما حرصت على التلون الذى يبرز إمكانياتها الفنية الكبيرة التى تؤكد موهبتها المميزة وطموحاتها التى تنتقل بها من شخصية إلى شخصية أخرى بجسارة ومقدرة عالية.

إنها (الحلوة) كما غنى لها «عبد الحليم حافظ» فى الفيلم الميلودرامى العاطفى (الخطايا) والتى أخلصت فيه لحب لقيط يلفظه المجتمع.. ثم عادت لتلعب أمامه فى حقبة زمنية أخرى دور الراقصة العاشقة المتمرسة التى أغوت شابًا جامعيًا انزلق معها فى علاقة جنسية ملتهبة كادت أن تقضى على مستقبله.. وفى نفس هذا الإطار الميلودرامى لعبت دور (زوبة) العالمة فى «قصر الشوق» إخراج «حسن الإمام».. وهى اللعوب المتمردة التى تبحث عن نفسها الضائعة فى فيلم (النظارة السوداء) قصة «إحسان عبد القدوس» وإخراج «صلاح أبو سيف».. وهى «شهرت» المرأة الشعبية الجميلة ذات الأنوثة الواضحة التى دفعها الاحتياج والفقر والعوز أن تعمل خادمة عند قاضى ثرى.. يعانى من ازدواج فى الشخصية «محمود ياسين» فى رائعة «يوسف إدريس» قاع المدينة) إخراج «حسام الدين مصطفى».

القاضى يراودها عن نفسها فيضغط عليها حتى تستسلم فتصبح عشيقته ثم يمل منها فيهينها ويتهمها بالسرقة فيصبح سببًا رئيسيًا فى انحرافها.

والفيلم يمثل رحلة قام بها القاضى بقيادة سيارته الفارهه ابتداءً من الحى الراقى الذى يقطن فيه حتى عشوائيات أولاد الفقر فى حوارى ضيقة ملتوية تؤدى إلى أزقة أكثر ضيقًا.. خرائب وبيوت تتساند حتى لا تنهار حيث تسكن البطلة.. وتكشف الرحلة (البرجوازية) عن المجتمع الطبقى الذى يفتقر إلى العدالة الاجتماعية واتساع تلك الفوارق بين المجتمع الراقى وبيت قاع المدينة لتفاجأ به «شهرت» (نادية لطفى) ينقض عليها ويفتش حجرتها متهمًا إياها بسرقة ساعته وفى لقطة لا تنسى بالغة الدلالة والتعبير لخصت فيه جوهر قصة «يوسف إدريس» ورؤيته الإنسانية والفكرية.. ترمقه بنظراتها البائسة والمدينة.. الفاضحة والمنكسرة فى آن واحد بأسى وقهر وإحساس طاغ بالهوان.. وتكشف بتلك النظرة الموحية عن زيف سلوكه الطبقى.. فهو يتعامل معها كعشيقة فى الظلام.. وخادمة أجيرة فى النور.. تناقض كريه بين إحساسه المتدنى.. ومظهره الخارجى البراق.. لقد حل مشكلته النفسية بمعنى العدالة كما تراها الأخلاق البرجوازية عن طريق «شهرت» البائسة والتى وصفها فى النهاية بأنها مجرد لصة محترفة وقد استطاعت «نادية لطفى» أن تعبر تلك المعانى بمقدرة فائقة على تجسيد والإدراك العميق لأبعاد الشخصية الاجتماعية والنفسية فى واحد من أجمل أدوارها.

ثم هى أيضًا فى فيلم (على ورق سوليفان) وفى اللقاء الثانى مع «يوسف إدريس» وسيناريو وحوار «كوثر هيكل» وإخراج «حسين كمال» تلعب دور زوجة جراح شهير.. يداهمها الملل وتكاد تنزلق فى علاقة خاصة مع شاب يطاردها.

فى حيرتها ومللها تقودها قدماها إلى المستشفى الذى يعمل به زوجها.. يسمح لها بدخول حجرة العمليات وتراه وهو مستغرق فى عمله وحوله مساعدوه.. فيداهمها وكأنه رجل لا تعرفه.

هذه النظرة الثاقبة التى تنفذ إلى أعماق مساعديه.. وهذا الوجه الذى لم يستطع حتى القناع الشامل أن يخفى الشخصية التى يسيطر عليها تمامًا.. المحددة متى وكيف تتحرك هذا هو الذى لم تره أبدًا فى علاقتها الشخصية به.. أنه هنا مخيف.. مرعب.. ذكر.. رجل.. يمثل ما تحس به كرجل.. وهو فى قمة مزاولته للرجولة معها.

بعد أن انتهت العملية وخلع قناعه اكتسى وجهه بابتسامة لا حدود لسحرها.. إن هالة الرجل وهو يعمل طردت هذا الآخر.. وجعلتها ترى تفاهته وعظمة هذا الرجل الذى كانت تفكر فى خيانته.

إن لحظة التحول الدرامى تلك التى عبرت عن مشاعر وأفكار البطلة كانت تحديًا بالغ الصعوبة لـ «نادية لطفى» لتثبت من خلال أدائها له أنها ممثلة عظيمة الشأن.. فكيف من خلال عدة لقطات ترصد ردود أفعالها تعبر عن ذلك الاكتشاف العظيم الذى يحدث لها ويمنعها من السقوط فى علاقة جنسية بالشاب الذى يلاحقها.

إنها من خلال نظراتها الموحية تتأمل أصابعه وهى غادية وعائدة من الجرح.. إلى الآلات.. إلى الجرح لا شىء هناك سوى أصابع تتحرك فى قفازها المطاطى طويلة نحيلة فى يد صغيرة تعرفها هى.. ما هذا المعجز فيها الذى يمتص وعى هؤلاء المساعدين ووعيها كما لو كان أعظم عازف كمان فى العالم يعزف.. والأنفاس وعيناها الرائعة التعبير معلقة بأنامله.. إنها تراه الآن على حقيقته التى لم تدركها أبدًا صانعًا عظيمًا للحياة.. ورجلًا حقيقيًا يكمن الحب والسحر نفسه فى عينيه النافذتين وأصابعه الماهرة عندما يتحول إلى إله صغير يصارع الموت ويقهره ويمنح وقته وحبه لشىء أكبر للناس. وأمام اكتشافها المذهل هذا تدرك الزوجة قيمة الكنز الذى كادت أن تفلته من يديها من أجل لحظات حب مزوقة وزائفة.

وأما نحن المشاهدين والنقاد فندرك حق الإدراك أن التجسيد العبقرى للحظات التحول تلك، والتى هى جوهر الفيلم، يكمن اكتمال سحره وألقه ومعناه العميق فى أداء تلك الممثلة العظيمة «نادية لطفى».

Atef.beshay@windowslive.com
نقلا عن المصرى اليوم