أمينة خيرى
متى كانت آخر مرة شهدت فيها اختلافاً فى الرؤى، أو خلافاً حول مفاهيم، أو تراوحاً فى وجهات النظر بين شخصين أو أكثر، ولم ينته الأمر بهما إلى اعتداء لفظى أو عراك بالأيدى أو ما هو أكثر من ذلك؟

شخصياً لا أتذكر، ولأن الكثير من الخلافات والاختلافات نزحت هى الأخرى كغيرها من مظاهر الحياة إلى الشبكة العنكبوتية، حيث سطور يكتبها أحدهم فيدخل صديق ينعته بالجهل أو السطحية أو التفاهة، وربما يتهمه بإهانة الدين ومناصبة العداء للمتدينين، وذلك بمجرد أنه طرح وجهة نظر. وجهات النظر لا يمكن فرض عقوبة عليها، وهى غير خاضعة للتقويم والتهذيب عبر الترهيب أو حتى التنديد. وحتى فى حال وجد الشخص نفسه محل ترهيب معنوى أو ترويع اجتماعى، وما أبدعنا فى ابتكارها وما أروعنا فى اختراعها، فإن توقف الشخص عن التعبير عن رأيه أو وجهة نظره لا يعنى أبداً أنه غير رأيه أو اعتنق ما يعتبره الآخرون الاعتناق الأمثل والاعتقاد الأفضل، هو توقف إما تجنباً للصداع، أو درءاً للجدال العقيم، أو خوفاً مما قد يناله من متحجرى العقول ضيقى الأفق، هذا الفريق الآخذ فى النمو حولنا، ومنهم «متعلمون» ولا أقول مثقفين، تربوا وتعلموا ونشأوا على أن الخلاف فى الرأى لا يفسد للود «كل قضية فقط» بل يهدد الكون ويعرض البرية للانقراض ويستدعى غضب السماء، هذا الفريق ينشر معتقده بأن صوت الاختلاف يهدده، ونبرة الخلاف لا بد وحتماً أن تتحول صراعاً من أجل البقاء، حيث أحد الطرفين فقط يستحق الحياة.

الحياة القائمة فى الأصل على الاختلاف والتعددية والصفات والسمات والرؤى والملكات والمهارات والمواهب والأشكال والألوان المختلفة تستحق منا إعادة نظر فى هذه الهستيريا التى تصيبنا والرعب الذى ضربنا ما إن نتعرض لأشياء وأشخاص وأفكار لا تتطابق معنا. ولأسباب كثيرة، بعضها يتعلق بنظام التعليم الذى ظل متحجراً لعقود طويلة، وبعضها له صلة بعادات وتقاليد متوارثة تعتبر الرأى الآخر قلة تهذيب، وثقافة مستوردة هبت علينا مع هبوب الجماعات الدينية وجعلت من كل ما يقال غير كلمة «آمين» كفراً بيناً وخروجاً عن الملة واضحاً.

وضوح مساحة قبول الاختلاف وهضم الخلاف لم يعد يحتاج إلى دراسات علمية أو أبحاث ميدانية، وتكفى نظرة سريعة إلى ما نتعرض له يومياً حتى فى دوائر الأهل والأصدقاء والمعارف من مناقشات تشهد خلافات حول السياسة فتظهر نعوت الخيانة والعمالة أو الاستكانة والانبطاح، أو اختلافات فى الرؤى الدينية فتصوب مدافع التكفير والترهيب بنار جهنم، حتى النقاش فى المسائل الفنية، فإن أعضاء حزب التطابق والاستنساخ يعتبرون الداعين إلى التنوع وقبوله حتى لو كان مختلفاً فئة ضالة ينبغى القضاء عليها، ولو عبر سلاح الحظر أو الـ«بلوك».

وكم من بلوك تم تفعيله لا لأن «المتبلك» أهان أو تعدى حدود الأدب، بل لأنه تجرأ وناقش ما ورد فى التدوينة الفيسبوكية عارضاً توجهاً مختلفاً، وكم مرة سمعنا هذه العبارة العجيبة الغريبة: «بلكت ابن خالى لأن آراءه تعصبنى ولا أريد أن أخسره» أو «بلكت ابنة عمتى لأن ما من مرة أكتب رأيى فى قضية إلا وعرضت وجهة نظر مخالفة»؟ ألم يسمع جميعنا عن «حملات تطهير الحساب»؟ هل يعقل أن يصل بنا الهوس بالرأى الواحد والشكل الواحد والزى الواحد والمعتقد الواحد إلى صناعة فضاء افتراضى لا يعيش فيها إلا التوائم الملتصقة فكرياً؟ المتشدقون ليلاً نهاراً فخورون بالثقافة المتنوعة التى ينتمون إليها، أو العقيدة المتسامحة التى يعتنقونها، ألم يفكروا ولو لحظة فى هذا التناقض العجيب الذى يدعهم إلى خلع تنوعهم أمام أول خلاف ثقافى، ونبذ تسامحهم أمام أول اختلاف دينى؟

نسمع كثيراً عن آداب الحوار وأصوله وأخلاقيات الاختلاف. ندرسها فى المدرسة، ونتحدث عنها فى الإعلام، ويعظنا بها رجال الدين، ويتغنى بها المثقفون، لكن حين يأتى موعد الحصة العملى، يتبخر كل ما سبق فى هواء الرأى الواحد والرؤية الواحدة.

هذه الأحادية المفزعة لا تعكس تمسكاً بفكرة أو قناعة برؤية بقدر ما تعنى قلة ثقة فى الرؤية وخوفاً مرضياً من كل ما هو مختلف، إنها تعكس قلة ثقة فى النفس واهتزازاً شديداً فى الشخصية ويقيناً بأن الملكات والقدرات عاجزة عن التأقلم مع الاختلاف. هؤلاء الذين زرعوا فينا أسطورة أننا وحدنا على حق والباقون جميعهم على باطل، وأننا وحدنا الموعودون بالجنة والباقون فى نار جهنم، وأننا وحدنا أسياد العالم والباقون مواطنون درجة ثانية وثالثة وعبيد، إلى آخر منظومة العنجهية الفكرية المرتكزة على خواء المحتوى عليهم أن يراجعوا أنفسهم، وينظروا حولهم ليروا ما أدى إليه ضيق أفقهم، وانغلاق تجربتهم، وشح معلوماتهم.
نقلا عن الوطن