د. محمد عثمان الخشت- أستاذ فلسفة الدين
"في عصر تغييب فيه الواضحات، لابد من إعادة توضيح الواضح! إن القرآن والسنة الصحيحة ليسا تراثًا، بل فوق التراث. ولا يعني تأسيس عصر ديني جديد، الإتيان بدين جديد. ومن أسف البعض تسرع بالحكم دون أن يقرأ على الرغم من أنه من أمة (اقرأ)، تسرع بالحكم بأن المقصود هو الإتيان بدين جديد.. هكذا مرة واحدة: دين جديد!! إن الأمر ببساطة هو محاولة تأسيس مناهج جديدة في فهم القرآن والسنة الصحيحة وفق ضوابط علمية دقيقة، وهذه الضوابط علمية وليست على طريقة الشاردين وراء أفكارهم دون تأسيس علمي رصين من العلوم الدقيقة.

أما التراث فمنه الحي ومنه الميت، منه الإيجابي ومنه السلبي. حتى في علم أصول الدين، وهو علم بشري، نجد السلبي ونجد الإيجابي، نجد ما يبتعد عن مقاصد القرآن والسنة الصحيحة، ونجد ما يتفق معهما. وحتى لا أستمر في التنظير، سوف أضرب مثلا على ذلك من العالم الأشعري الجهبذ في علم أصول الدين القديم، عبد القاهر البغدادي المتوفى عام 429 هـ في كتابه (الفَرق بين الفِرق) المنشور بتحقيقي ودراستي منذ اثنين وثلاثين عاما. وغني عن البيان أن تحقيق ودراسة كتاب لا يعني بالضرورة الاتفاق مع آرائه، لكن في عصر غياب البديهيات الواضحات، ربما يخرج عليك شخص يحملك كل تبعة آراء الكتاب الذي حققته، متناسيا أو متجاهلا أو جاهلا بأن التحقيق عمل علمي يمكن أن تقوم به حتى مع كتاب من دين آخر أو من حضارة أخرى. ليست هذه مشكلتنا الآن، ونرجع إلى موضوع هذا المقال.

في علم أصول الدين القديم ومجال الدراسات العقائدية في التراث، تجد أنواعا عدة من الخطاب تستخدم طرقا ومناهج متنوعة، وهي تدور حول ثلاثة مناهج:

أولاً: المنهج الخطابي: وهذا المنهج يعتمد على أساليب الإقناع العاطفي، ودغدغة مشاعر العوام، والعبارات التي توهم بالانتصار، ويلجأ مستخدمو هذا المنهج كثيرا إلى تعنيف الخصم والسخرية منه وتعييره، مستخدمين تعبيرات بلاغية وألفاظ رنانة على طريقة الشجار في حروب الشوارع. وطبعا تجد بقوة في هذا النوع من الخطاب الاستدلالات السفسطائية التي تخيل على العوام وجماهير كرة القدم التي يحركها العصبية والتعصب وغريزة القطيع. كما تجد في هذا النوع من الخطاب الاستدلال بالشعر الذي يستخدم أساليب وتركيبات تؤثر في المشاعر وتثير الفخر الكاذب.

ثانياً: المنهج الجدلي: هو المنهج الذي يعتمد على الاستدلالات التي تقوم على مقدمات ظنية محتملة، أي آراء شائعة أو مقبولة عند العامة. ومعنى ذلك أنه منهج احتمالي، وهو يتوسط المنهج الخطابي والمنهج البرهاني.

ثالثاً: المنهج البرهاني: يقوم على الاستدلال الذي ينتقل فيه الذهن من مقدمات يقينية ثابتة صادقة علميا أو عقليا، أو مقدمات أولية مسلمة إلى قضايا تنتج عنها بالضرورة. وقد عد المناطقة القدامى هذا النوع أسمى صور الاستدلال؛ لأنه يقوم على أساس من مقدمات يقينية وينتهي تبعاً لذلك إلى نتائج يقينية.

وتتوقف قيمة الكتاب في علم أصول الدين أو غيره من العلوم، من الناحية الموضوعية البحتة بشكل كبير، على استخدام المؤلف لأي من هذه المناهج؛ فأعلى الكتب قيمة هي التي تستخدم المنهج البرهاني، يليها الكتب الجدلية، ثم الكتب الخطابية. وليس بالضرورة أن المؤلف يتحتم عليه أن يستخدم منهجاً من هذه المناهج الثلاثة دون المنهجين الآخرين، فقد يلجأ المؤلف إلى استخدام المناهج الثلاثة معاً تبعاً لمقتضيات السياق سواء كان واعياً بهذا، أو غير واع، وهو الأغلب، وقد يكون استخدامه لهذه المناهج بشكل متوازن دون أن يطغى منهج منها على الآخر، وقد يغلب إحداها ويتراجع الباقيان.. وهكذا حسب منطق الاحتمالات.

وبالنسبة إلى عبد القاهر البغدادي، فإنه قد تعامل مع العقائد في كتابه (الفَرق بين الفِرق) بهذه المناهج الثلاثة، وإن كان استخدامه للمنهج البرهاني هو أقل استخدام؛ حيث يغلب على الكتاب المنهجان: الخطابي والجدلي.

أما المنهج الخطابي فيبرز بوضوح من خلال لجوئه المستمر إلى أساليب الإقناع العاطفي، واستخدام أساليب السب والتعنيف والسخرية من الخصوم، بل والتعيير والشماتة فيهم، حتى في أشياء ليسوا مسئولين عنها لأنها من قدر الله تعالى. وعلى سبيل المثال ينتقد الجاحظ مستشهداً بقول الشاعر فيه:
لو يُمْسَخُ الخنزيرُ مَسْخاً ثانياً ما كان إلا دُون قُبْحِ الجاحظ

رجل ينوب عن الجحيم بنفسه وهو القَذَى في كل طَرْفٍ لاحظ
وهو ما اقتبسه منه بعد ذلك آخرون، منهم أبو المظفر الاسفراييني الأشعري في كتابه :(التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين).
وعندما يعرض لآراء فرقة العمروية من فرق المعتزلة يقول: "هؤلاء أتباع عمرو بن عبيد بن باب مولى بن تميم، وكان جده من سبى كابل، وما ظهرت البدع والضلالات في الأديان إلا من أبناء السبايا"!

هكذا يسخر البغدادي من رجل يخالفه في الرأي، ولا شك أن هذا قول متسرع منه، فإن كثيراً من أصحاب الضلالات والبدع في التراث كانوا من أبناء الحرائر أيضا. ولسنا بحاجة للقول إن الأسيرة لا ذنب لها أنها أسيرة ولا ذنب لابنها أو ابنتها، لكن ماذا يمكنك أن تفعل مع عقول تعير الإنسان بأنه أعمى أو مولود بعيب خلقي أو أنه من أبناء السبايا! إنه شجار حرب الشوارع!

وأيضا بما أننا في عصر ضرورة توضيح الواضح، فإن تعيير البغدادي للجاحظ كان بسبب أنه معتزلي يخالف الأشاعرة الرأي، أما أنا هنا فلا أدافع عن آراء الجاحظ ولا عن المعتزلة وفرقها، فلم أكن في يوم ما معتزليا ولن أكون، وأعدها أمرا من أمور الماضي ومعاركه القديمة، لكن النقطة هنا هي التوقف عند أسلوب البغدادي الذي يدافع عن عقائده بالسخرية من خصومه وتعييرهم وسبهم! وهذا منهج أصيل لا يزال مستمرا حتى الآن؛ فنحن لا نزال نعيش في الماضي، أما الحاضر فقد تركناه للأمم الأخرى التي تحولت إلى مسارات العلوم الحديثة، ونحن قابعين في القديم وبُناته الذين كفونا الكلام عند التحدي!
وأيضاً لا يتورع عبد القاهر البغدادي عن اتهام خصومه في أعراضهم، وعلى سبيل المثال عندما يعرض لرأى ثمامة بن الأشرس في السبي، يقول: "كان يحرم السبي؛ لأن المسبي عنده ما عصى ربه إذا لم يعرفه، وإنما العاصي عنده من عرف ربه بالضرورة ثم جحده أو عصاه". فهذا رأى ثمامة يقدمه البغدادي ثم يعلق عليه قائلاً: "وفى هذا إقرار منه على نفسه بأنه ولد زنى؛ لأنه كان من الموالي، وكانت أمه مسبية"!

هكذا يتبع البغدادي منهج حرب الشوارع وأسلوب القتل المعنوي لخصمه، وربما يعقبه القتل الجسدي من الأتباع، وهو منهج قديم جديد عند أصحاب هذه الطريقة في التفكير. ولا أدري كيف يقرأون في صلواتهم قوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (سورة النحل:25). قال البغوي: "القول اللين الرقيق من غير غلظة ولا تعنيف". انظر (تفسير البغوي: 5/52).. لكن المتطرفين من أهل التفسير يعدون هذه الآية منسوخة حتى يبرروا لأنفسهم الاعتداء على الآخرين بالقتل المعنوي أو الجسدي! ومن الممكن أن يقدموا لك تفسيرا تفصيليا حسب أهوائهم فيقولون :(هذه الآية نزلت بمكة في وقت الأمر بمهادنة قريش، وأمره أن يدعو إلى دين الله وشرعه بتلطف ولين دون مخاشنة وتعنيف، وهكذا ينبغي أن يُوعظ المسلمون إلى يوم القيامة فهي محكمة في جهة العصاة من الموحدين، ومنسوخة بالقتال في حق الكافرين. وقد قيل: إن من أمكنت معه هذه الأحوال من الكفار ورُجي إيمانه بها دون قتال فهي فيه محكمة)( راجع الأقوال التي أوردها القرطبي في تفسيره، ص: 182).

وهكذا مجددا: التراث منه السلبي ومنه الإيجابي حتى عند علماء التفسير. فهل يصح أن ندافع عن التراث كله بإطلاق مثلما يزايد البعض؟ وهل يصح أن نهين التراث بإطلاق مثلما يتسرع البعض؟

ربما تقودك الإجابة إلى ضرورة صناعة وسط ذهبي جديد، والعودة إلى الينابيع الصافية: القرآن والسنة الصحيحة".

#جامعة_القاهرة
# الخطاب_الديني_الجديد
نقلا عن الأهرام