فاطمة ناعوت
بعضُ الناس لا يفضِّلون احتساءَ الكوب حتى آخرَ قطرة. يتركون في قاعه شيئًا تُسمّيه الأدبياتُ العربية: «السؤر»، وهو المتبقّى من أي شىء. فلماذا يُضحّى إنسانٌ بما تبقّى له من عمر، ويقتل نفسَه، مثلما شهدنا الفترة الأخيرة في عدة حالات متلاحقة في مجتمعنا المصرى لشباب وشابات أنهوا أعمارَهم دون سبب هائل يبرر انتحارهم؟!.

ربما نجدُ الإجابةَ في رواية «باولو كويللو»: «ڤيرونيكا» تُقرّر أن تموت «Veronica Decides to Die». امرأة شابة قررت أن تذهب إلى الموت بإرادتها. ليس من أزمة نفسية أو صدمة أو أىٍّ من دوافع الانتحار المعروفة. لكنها ببساطة عزمت على مباغتة الموت بدلا من انتظاره، كما ينتظره عمومُ البشر. قرّرت أن تتجرع كأس الموت، وهى صحيحةُ البدن سليمة العقل، دون شيخوخة أو مرض. فقد أنجزت كلَّ ما يمكن إنجازه في الحياة، وما تبقّى لها من سنوات وعقود، سوف تتكرر على نحو رتيب مُضجر؛ ففيمَ الاستمرار؟! ابتلعت حفنة أقراص، ونامت لكيلا تصحو أبدًا. ولدهشتها، فتّحت عينيها في مصحة للأمراض العقلية، وأوهمها الطبيبُ أن جزءًا من قلبها قد تلف بسبب جرعة الأقراص المنوّمة؛ وأنها ستموت خلال أسابيع قليلة. وتكتمل الحكايةُ برصد الأيام الأخيرة التي بدّلت رؤيةَ المرأة للحياة، وأرهفت وعيها بقيمة كلّ لحظة تعيشها. واصلت الليلَ بالنهار كى تتعلم عزف البيانو في المصحّة، وصادقت المرضى، وأحبّت، وحلُمت، ثم تمنت ألا تموت. ما فعله الطبيبُ هو «حقن» المنتحرة، الزاهدة في الحياة، بمصل «الوعى بالحياة»، إن جاز القول؛ عن طريق إيهامها بأن ساعاتٍ قليلةً هي كل ما تبقى لها في هذه الدنيا؛ فرغبت في الحياة وهزمت الموت. أو لنقل هزمت رغبتها في الموت.

أراد «كويللو» في تلك الرواية أن يؤسِّس نزعة: «الوعى بالحياة، والوعى بالموت». الوعى الذي يُشكّل كثافةَ وجود الإنسان، ومدى استعداده للحياة، أو للموت. الوعى بقيمة الحياة، ثم ضرورة أن يمتلكَ الإنسانُ حلمًا وهدفًا، وإيمانه بقيمة ذلك الحلم، وقدرته على تحقيقه، ثم العيش وتكريس كلّ لحظات عمره لتحقيقه. المنتحرُ عادة يخفق في مرحلة من تلك المراحل. إما أن تكون حياتُه بلا حلم. أو لديه حُلمٌ ولا يؤمن بقدرته على تحقيقه. أو أنه لا يبذل الجهد الكافى لتحقيقه؛ فيشعر بعجزه، ويُنهى حياتَه. إنها قيمة أن يمتلكَ كلُّ إنسان «مشروعًا» حقيقيًّا يعيشُ من أجله. والمشروعُ؛ ليس بالضرورة أن يكون عظيمًا أو هائلًا. فليس ثمّة مشروعٌ عظيم وآخر تافه. كلُّ مشروع كبيرٌ، مهما صَغُر، وكلُّ حلمٍ عظيمٌ، مهما تضاءل. فالرجلُ الجميل الذي يخبز الخبزَ للناس، والسيدة الجميلة التي تجلس على قارعة الطريق «تُفصِّصُ» حبّات البازلاء لتبيعها مغلّفةً للموظفّات في طريقهن من العمل إلى البيت، كلاهما لديه مشروعٌ محترم يستحق الحياة. مساعدةُ الناس على الحياة هي أغلى المشاريع وأغنى الأحلام. ولكن هناك من البشر من لا يمتلكون الوعى بذلك، وأولئك في مرمى سهام الانتحار.

تذكّروا معى الفيلم المصرى الجميل «أنت عمرى»، بطولة الموهوبين: «نيلى كريم»، و«هانى سلامة». ولد وبنت. كلاهما يمتلك «الحُلم». ولا يفصلهما عن تحقيقه إلا اقترابُ لحظة الموت الوشيك؛ لأن كليهما مصابٌ بالسرطان. نقاطُ التشابه هي: ١- كلاهما يمتلك الحلم، ٢- كلاهما يمتلك القدرة على تحقيقه، ٣- كلاهما أوشك على الموت قبل تحقيق الحلم. أما نقطة الاختلاف فكانت: أن أحدهما آمن بقدرته على تحقيق الحلم، والآخر لم يؤمن بتحقيقه. اختلفت درجاتُ «الوعى بالموت» أو «الوعى بالحياة» لدى كلٍّ منهما. هذا التباين في الوعى هو عقدةُ هذه الدراما.

«نيللى كريم»، باليرينا جميلة تحلم بالرقص مع فرقة البولشوى الروسية في أوبرا «جيزيل». هذا حلمها. وهو شبه متحقق، لأن البولشوى اختارتها لتمثل اسمَ مصر في هذا العرض العالميّ، ولم يتبق إلا أن يتأخر الموتُ قليلا كى يسمح ليوم العرض أن يسبقَه. «هانى سلامة»، مهندس ثرى يحب زوجته الجميلة «منّة شلبى»، وطفله. يحلم باستمرار الحياة وحسب، حتى يرى طفلَه مهندسًا ناجحًا مثله!.

وضعتْنا الدراما أمام قيمة: «الإيمان بالحلم». والإيمان بالقدرة على تحقيقه، وبحتمية الإصرار على التحقق، وقبل هذا وذاك، «الوعى بقيمة الحياة». هنا انقسم البطلان. فالبنت «آمنت» بحلمها وكان وعيها بالحياة حاضرًا، بينما كان وعى الولد بالموت أعلى. ونكمل يوم «الإثنين». ودائمًا «الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم