عادل نعمان
ما أطالب به اليوم ليس استجداء من أحد المسئولين، ولست بواقف على أبوابهم الموصدة أطلب الرجاء بالعطف والمودة لهؤلاء، ولا ألتمس لهم الرحمة من العذاب اليومى فى أروقة ودهاليز المصالح الحكومية، الذى يثقل كاهل الصغير قبل الكبير، بل أطالب بحقهم فى الراحة بعد رحلة الحياة المهلكة المنهكة، وقضاء مصالحهم فى رفق وراحة، فليسوا أهلاً لهذا التعب وهذا الإرهاق، وليست حاجاتهم كحاجة الأصحاء يقدرون عليها، ولو كانت مصالحنا الحكومية مؤهلة للانتظار كبقية الدول لكنا قد خرسنا وسكتنا وصبرنا، وما قلنا قولة هذا الرجل الكبير المسن (لو كان فيه دورة مياه آدمية ما تبرمت وما صرخت)، وصاحبنا هذا كان يقف فى طابور من طوابيرها منهكاً مرهقاً، يريد أن يقضى حاجته، ولولا تدخلى عند الموظف وطلبى أن يعجل فى استدعائه وإنهاء معاملاته، واستجابته لهذا، لقضى الرجل نصف يومه واقفاً فى الطابور، وكأن منه وعليه ما كان، وهذا ما دفعنى منذ يومين إلى الحديث مباشرة مع مديرة التوثيق بمكتب بريد الحى السادس بمدينة 6 أكتوبر، لتقديم كبار السن فى معاملات المكتب، وبأدب جم استجابت، وأعطتهم أولوية التعامل، وكان لمبادرتها استحسان ورضا من الحضور، ولم يعترض أو يتأذى منهم أحد، إلا أننا لا ننتظر فى هذا الأمر وجهات النظر المتباينة بين موظف وآخر، أو الرجوع لجموع المتعاملين لاستفتائهم فى أمر هؤلاء، أو بين طبيعة بشرية سوية تتوق للخير وتتنازل له، وبين طبيعة متعجرفة ترفضه لكسب بعض من الوقت أو الراحة، بل نريده قراراً فى كل المصالح الحكومية على اتساعها وفى أنحاء الوطن طوله وعرضه، كل من تعدى عمره خمسة وستين عاماً له الأولوية فى إنجاز معاملاته إذا كان هو صاحب المعاملة أو أحد أطرافها، هذا حق لهم، وواجب على كافة المصالح الالتزام بها، لا بد أن نعيد منهج العطف على الكبير واحترامه.

إن ترسيخ هذا المفهوم عند الدولة، واعتبار هذا السلوك فى التعامل مع كبار السن، خاصة المرضى منهم، سلوكاً حكومياً عاماً يؤمن به العاملون فيها، ولا أتصور أن حائلاً يحول بينهم وبين هذا، بل هو مقبول ومستحب، أجزم أنه سيتحول إلى سلوك عام فى تصرفات الناس وسلوكياتهم وتعاملاتهم اليومية والحياتية معهم، بل ويتجملون به، ويعتبرونه تواصلاً مع من حرموا لقاءهم من الآباء والأمهات، أو ندموا يوماً على عدم مودتهم وخدمتهم، تعويضاً عن الفقد والغربة عن الأحباب، ورداً للجميل من جيل إلى جيل، فإذا ما استحسن الناس أمراً أجادوه وأتقنوه بل وبالغوا فيه، وتسابقوا إليه، ونقلوا هذا الاستحسان إلى صفات ومزايا أخرى يضمونها ضماً جميلاً إلى صفوف ما يتحلون به من صفات ومزايا، وأصبح فخرهم واعتزازهم، والناس إذا ما استقبحوا أمراً كرهوه وصرفوا الناس عنه، وإذا ما أحبوا أمراً استحسنوه وحببوا الناس فيه، هذه طبائع البشر المتوارثة، ولسنا أقل من هؤلاء الذين اعتادوا على الجمال، فزينوها يوماً بعد يوم، وما زال الناس يرسمون من الحسن أحسنه. فجملوا أيها السادة حياتنا بهذا القليل، واغرسوا فى الناس صور البهجة حتى لو كان نبتة صغيرة، تبدأ بأولوية التعامل الحكومى مع كبار السن، وإنهاء معاملاتهم كأولوية أولى تسبق الحضور، يوماً ما ستجدونها وضاءة تملأ العيون كما تملأ الصدور، ويرثها جيل بعد جيل.

وما كانت وما زالت صور نحترمها فى العالم من النظام والانضباط والاحترام والجدية، ربما كان أساسها وقاعدتها أمراً يبدو هيناً، أخذه الناس وبنوا عليه، كالتحية عند الصباح أو المساء، وقد خرج عليهم من بين الصفوف من يحذر الناس من هذا التباعد وهذا الجفاء، وطالب الناس بتحية الصباح والمساء، فاشتاق الناس إلى القرب والمودة، بعد أن عاشوا فى غربة وفصال، فقربت المسافات وزادت من الألفة والأمان والاطمئنان بينهم، وربما كانت هذه الجرعة البسيطة زادتهم حسناً فزادوها، واطمئناناً وأمناً فتجاوزوها، ومحبة وسلاماً فضاعفوها، وبحثوا عما يزيدها نظاماً وسلاماً، فكانت هذه الفروع النضرة، وهذه الأشجار المثمرة اليانعة، التى تؤتى أكلها كل حين، والتى يرويها الناس ويحافظون عليها، أرأيت يوماً هذه السيدة التى تقف بسيارتها لترفع عن الشارع ركام ومخلفات المارة، وتصرخ وتحتج على من تركها، ربما كان جدها هو هذا الرجل الذى دعا الناس للسلام فى الصباح وفى المساء، وما يدريك كيف كانت بداية الشجرة الوارفة الظلال؟ وكيف كان كانت الخطوة الأولى للصغير؟ والأخيرة للكبير؟

السادة الوزراء هذه فرصتكم الذهبية، تدخلون بها التاريخ من أوسع أبوابه، وهو باب الرضا، وهو باب لو تعلمون عظيم، فابدأوا بغرس هذه النبتة الصغيرة وابدأوا بكبار السن، تحية الصباح ليردها الناس تحية المساء.
تقلا عن الوطن