خالد عكاشة
محافظة إدلب السورية التى يقطنها الآن نحو 4 ملايين سورى، يقدَّر نصفهم تقريباً باعتبارهم سكانها الأصليين، والنصف الثانى ينقسم ما بين نازحين ارتضوا أو أُجبروا على اللجوء للمحافظة التى تحظى بحماية نسبية وفرتها لها اتفاقية مناطق خفض التصعيد المبرمة فى 2017 ما بين روسيا وتركيا وإيران، والتى جرى التأكيد عليها فيما يخص إدلب فى «سوتشى» فى سبتمبر 2018 ما بين روسيا وتركيا، وفى النهاية مع قسم آخر يصل إلى ما يقارب نصف المليون من البشر، يضم خليطاً متفجراً من أعضاء التنظيمات المسلحة وعائلاتهم التى جرى سحبهم أو هزيمتهم من وفى مناطق قتال أخرى بداخل سوريا. القوة الرئيسية المسيطرة على برميل البارود هذا هى «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة سابقاً)، وهى تتعرض منذ ديسمبر الماضى إلى فصل من فصول التصعيد العملياتى من قوات الجيش السورى، هذا الأخير مدعوم بشكل كبير بالطبع من الجانب الروسى الذى يتدخل ويدير مثل تلك المعارك المفصلية. فروسيا على سبيل المثال هى التى تصدت لإقرار وقف لإطلاق النار توصلت إليه مؤخراً مع تركيا باعتبارها المشغل الحصرى لهذا التنظيم الإرهابى الضخم، والراعية على الأرض لشئون تلك المحافظة السورية، وتتباحث على موائد التفاوض فى مستقبلها وترتيبات إدارة وإعاشة هذا الخزان البشرى المسلح الكبير.

الخميس الماضى فى إدلب، وعلى مواقع لقوات النظام فى محاور التح وأبوحريف وقرية السمكة بريفى إدلب الجنوبى والشرقى، جرى هجوم عنيف شنّه من وصفتهم وكالات الأنباء السورية والروسية بالمجموعات الإرهابية. وفى الواقع كانت هناك ما يشبه «السرية المسلحة» التى يقدر عددها بأنها تفوق (200 عنصر)، هى التى نفذت هذا الهجوم المباغت من دون نزع صفة الإرهابية عنها، لكن الإعداد العسكرى والأسلحة والتكتيكات التى جرى استخدامها فى الهجوم هى التى دفعت لاستخدام لفظة «سرية» باعتبارها الأقرب للتوصيف الدقيق، فالهجوم استُخدمت فيه آليات مدرعة وعربات مفخخة تحت غطاء نارى كثيف، سبقه تحليق من طائرات مسيرة يبدو أنها كانت فى هذا الإطار تقوم بمهام الاستطلاع والضبط لمسارات الهجوم. وفق وكالة «إنترفاكس» الروسية، تكبدت المواقع السورية نحو (40 قتيل) و(50 مصاباً)، وأكدت وكالة الأنباء السورية الرسمية الخبر، فى الوقت الذى اجتمعت فيه الوكالتان على إغفال رقم الضحايا للجانب الروسى، رغم تأكيد شهود العيان بالمنطقة أن هذه المواقع العسكرية التى أنشئت حديثاً، بها مواقع معلومة يوجد بها عسكريون روس شوهدوا بالمنطقة قبيل أيام من وقوع الهجوم الأخير، كما جرى نقل لهؤلاء الضحايا بطائرات روسية هبطت بالقرب من المكان واقتصرت على نقل الضحايا الروس والمصابين، فى حين أجرى الجيش السورى عملية الإخلاء لعناصره بالسيارات الكبيرة التابعة للنظام. جرى بعد يوم واحد من العملية ما أُطلق عليه بلفظ مخفف «إعادة انتشار لقوة النظام العسكرية»، وأيضاً، وهذا هو الأهم، انسحبت القوة الروسية من المكان إلى الخلف بمسافة كبيرة، وهى التسمية الصحيحة لما جرى تنفيذه على الأرض بعد عملية الهجوم الكبير، وعُد ذلك أيضاً من دلالات وقوع ضحايا فى صفوف الروس.

هذا الهجوم الكبير مورس عليه قدر ملحوظ من التكتم، فالكثيرون من السوريين والروس معاً يعلنون أن أرقام الضحايا كبيرة، لكن الحقيقة أنها تجاوزت الأرقام المعلنة، فهذا الموقع الذى وقع فيه الهجوم كان يمثل نقطة تجميع وارتكاز كبيرة، أُعدت بها إنشاءات عسكرية لاستقبال القوات السورية التابعة للفرقة الرابعة بالجيش السورى، وهى الفرقة الأكثر تأهيلاً وتسليحاً لخوض المعارك الحاسمة، ومعها القوة الروسية التى تخرج فى عمليات مشتركة تشارك فى وضع الخطط لها، فضلاً عن تحديد التوقيت. وهذا الارتكاز كان مخططاً له ومكلفاً بالبدء فى السيطرة على منطقتى «الراشدين والليرامون» المهمتين، قبل أن يتلقى تلك الضربة الأخيرة المعطلة، وعادة يُجرى الجانب الروسى عمليات تنسيق مدققة مع الجانب التركى قبيل القيام بمثل تلك العمليات تحاشياً وتحسباً لأى خروج عن النص من قبَل التنظيمات التابعة لتركيا. وأنقرة بدأت، بعد جولات «سوتشى» المتعاقبة، تراعى هذا الأمر على نحو دقيق، وبدأت فى إخلاء مناطق ومحاور بعينها أمام قوات النظام كى يعيد سيطرته عليها، ومن ثم تأهيلها لفرض الضوابط ووضع النقاط العسكرية والأمنية عليها. وتركيا فى هذا الأمر بدأت تواجه إشكالية حقيقية، من حيث إن مقابل ما تقوم به على هذه الساحة (إدلب) هناك مقابل تتلقاه من النظام والروس معاً، فى إفساح مماثل لها أمام الأكراد فى مناطق الشمال السورى، والذى لم يجر حسم مصيره حتى الآن. المأزق التركى أن هذا العدد الضخم من عناصر الميليشيات التابعة لها، فضلاً عن عائلاتهم وهو رقم بمئات الآلاف من بشر يحيون فى هذه المنطقة، واستقروا منذ سنوات داخل تلك المنظومة من التشغيل التركى، لم يُحسم مصيرهم ولم تتوصل أنقرة إلى سبيل من أجل تذويبهم فى تلك المناطق.

هنا كانت ليبيا حاضرة بقوة فى لب المعضلة التركية، فمن ناحية جاء نقل هؤلاء إلى المحرقة الليبية كتخريجة مناسبة تماماً لأنقرة، وعملية إعادة تدوير مربحة للجانب التركى، حيث يمكن الاستفادة منهم لتحقيق تقدم على ملف آخر لصالح ضمان استمرارية منظومة الإفساح المتبادل التى تجرى على الساحة السورية. وفى جانب آخر لحضور الملف الليبى اعتُبر الهجوم الأخير بمثابة رسالة تركية خشنة موجهة إلى روسيا، تعبيراً عن إحباطها الكبير من الدور الروسى الذى يبدو أنه جرى الاتفاق عليه بعناية فيما بينهما، فأنقرة استضافت بوتين قبل شهر من الآن، وأُعلن على نحو مفاجئ فى تلك الزيارة مبادرة بوقف لإطلاق النار فى ليبيا، وحُدد فيها اليوم والساعة من أنقرة. بعد ذلك جرى ما جرى من تتالى وصول الأطراف إلى موسكو، وبحضور لافت ولصيق لوزير الخارجية التركى، أعقبه برلين وما خرج عنه، هذه المحطات جميعها ومخرجات أحداثها ونتائجها تنظر إليها أنقرة باعتبارها قد خُذلت فيها بقوة من الجانب الروسى، وأنها لم تحصل فيها على «ما اتُفق عليه»، مما دفع الجانب التركى إلى الذهاب إلى خزان البارود الجاهز للتحريك من أجل إنفاذ تلك الرسالة الخشنة التى تحوى فى القلب منها أنها قد تضحى باتفاق كبير وعميق ومتشعب فى سوريا، فى حال لم تحصل على ما تريد فى ليبيا، وهذا يعكس أهمية وحجم اللهفة التركية فى العمل على تفاصيل هذا الملف الأخير.
نقلا عن الوطن