نهاد أبو القمصان
ما زلت أرى أن ثورة يناير ثورة عظيمة قادها شباب حالم بغدٍ أفضل ليس لهم وحسب وإنما لكل المصريين، لم يساورنى الشك فى نقاء الكثير من هؤلاء الشباب حتى بعد أن تحوّل الحلم إلى كابوس عندما سُرق ونُثر فى الهواء ليحل محلهم طيور الظلام.

وكلما أستعيد ذاكرة ٢٥ يناير وما حدث فيها، وكلما مر الزمن، أصبحت الرؤية أكثر اتساعاً ووضوحاً، ويظهر هناك فى خلف المشهد جندى خفى لا نعرفه، بينما كان الجميع مشغولين بالمسيرات والبيانات ومنصات الميدان والخطب العصماء كان هذا الجندى معنياً بتأمين مفاصل الدولة، ليست المفاصل السياسية وإنما مفاصل الحياة اليومية، يحمى محطات المياه، لماذا وكيف لم تمتد يد التخريب لمحطات المياه؟ ولماذا رغم انشغالنا بتفاصيل الأخبار على القنوات المحلية والعربية والدولية لم يزر محطات الكهرباء من يحولون نهار مصر لليل ويقطعوا النور والحياة عن حضانات المستشفيات وغرف عملياتها؟

فى لحظة انهيار الشرطة لم تنهر الطرق وإمدادات التموين لمحلات البقالة الصغيرة أو المحلات العملاقة، ورغم اختراق الحدود بسيارات الأعلام السوداء فإنها لم تتمكن أبداً من أبعد من المشهد التليفزيونى الذى أذاعته.

واستقرت ملامح الحياة بكل تفاصيلها؛ مواد تموينية فى المحلات، خبز فى الأفران، عادت المدارس فعاد الأطفال إلى دروسهم، سرعان ما فتحت البنوك والشركات والمصالح، بالتأكيد مع بعض التأثر السلبى، لكن الحياة لم تتوقف مثل بلدان أخرى قضت الثورة عليها، لم يستطع جيل كامل الذهاب للمدرسة، ونُهبت البيوت والمحال والمصالح والمتاحف.

عندما أتأمل الحالة المصرية بهدوء يظهر لى طيف وراء الصورة، طيف منهمك فى عمل ما، غير معنى بالنقاشات الدائرة والصراعات الطاحنة، طيف يعرف ما يفعل ويحفظه عن ظهر قلب، يعرف معنى تأمين وطن بدءاً من مصالحه وهيبته ففرض طوق الحماية على مناطق السفارات حتى لا يتأذى دبلوماسيون ويكون ذلك سبباً لتدخل أجنبى، لكنه يعرف أيضاً أن الأمن فى تفاصيل حياة الناس فنزل لحماية محطات المياه ومحطات الكهرباء والغاز وصوامع الغلال ومخازن الطعام وغيرها.

ربما ترك للناس الاجتهاد فى حماية بيوتهم ومصالحهم الصغيرة وكان خلف الجميع يحمى تفاصيل الحياة التى تبدو صغيرة لكنها أكبر وأخطر من أن يحميها أحد، عندما أراجع ذكريات يناير وألبوم صورها وأرى شباباً وسياسيين أبتسم لأن هناك طيفاً فى ذكرى يناير لا يظهر هو من يعى الدرس ويعرف جيداً السر بأن السياسيين يتكلمون ويتفقون ويختلفون لكن ماكينة الحياة لها من يشغلها وقد استطاع ذلك بنجاح فى ذكرى يناير ورغم كل شىء، لكل شباب الثورة الأنقياء الذين آمنوا بالتغيير للأفضل شكراً، وإلى الجندى الخفى الذى ترك الجميع يتفقون ويختلفون واهتم بتأمين حياتنا اليومية شكراً جداً.
نقلا عن الوطن