عادل نعمان

لم يكن متوقعاً لهذا الميت الحى كل هذا النحيب وهذا العويل وكل هذا العزاء، وكنت أترقب من الأموات بعضا، لكن كل البيوت كانت حبلى بالموت حتى البكارى منهن، الموت فى بيوتنا يوزَّع بالتساوى بين الأحياء، والظلم لا ينجو منه أحد عندنا، ويتقاسمه الصغار والكبار، فما بالك لو كان المظلوم رب البيت وسيده وكبيره، لما خرج إلى المعاش صغر وهان!! ولم يكن فى حسابى أو فى حدود طاقتى وقدرة مشاعرى أن أحمل فى لحظة واحدة أوجاع كل هؤلاء، أو أخفف عنهم وأرفع عن كاهلهم كل هذه الأحمال، فهو حمل تنوء منه الجبال. يا ربى، ما كل هذا الظمأ وما كل هذا الجفاء وهذا البكاء وهذا الرجاء، صدور قد أهلكها الوجع، وقلوب قد أنهكها الأنين، تموت الأفيال واقفة، وهؤلاء -يا ولداه- يقفون على الطرقات من اليوم الأول للمعاش ميتين. هذا حالنا نحن أصحاب المعاشات الهزيلة، أعتذر لكم أحبابى جميعاً، مواساتى خجلى من أعداد المشيعين، وشمعتى يستحى ضوؤها من سواد الحزن الحالك فى بيوت الموجوعين، لكم الله طالما كان للمسئولين أذن من طين وأخرى من عجين.

 
وليس سراً ما كشفه أصحاب المعاشات عن قسوة ومشقة حياتهم، فهى مكشوفة ومفضوحة دون شكوى، تشير إلى صاحبها من وسط المئات، مسموع نحيبها دون بكاء، مكسورة على الوجوه فى تحد دون استحياء، تتحجر دمعاتها فى المآقى، تهرب وتفر وتتوارى خجلاً من عيون الناظرين. القصص كثيرة ومؤلمة، كلها خلف ستار حالك، وتختبئ خلف الأيدى فى كسوف، فما زالت حمرة من الخجل عالقة، قارئة فاضلة تخشى يوم خروجها للمعاش وهى فى مركز مرموق، لم تضعف يوماً أو تلين أو تهتز أو ترتشى، وتتساءل: كيف أعيش بهذا المعاش الهزيل بكرامة وسط أولادى وأحفادى وكنت يوماً سنداً ومعيناً لهم، أعطى وأجود على الصغير والكبير؟ وتتساءل فى حيرة: هل سيقف الأحفاد فى انتظار هداياهم، أم سينصرفون لعدم قدرتى عليها؟ صديق على الخاص يبكى ويقسم أن جرعة الدواء لا يتناول إلا نصفها حتى تكفيه بالكاد إلى آخر الشهر، يقول: نصف ألم ونصف موت، ربما أقدر عليهما. أما هذا فقد أقسم لى أنه يفكر كل يوم فى التسول ولن يمنعه مانع بعد اليوم، وهذا صديق كان عزيزاً فى قومه، يعمل فى شركة أمن ليلى على عمارة، وقد أصر على ذلك حتى يكون بعيداً عن عيون أقربائه أو معارفه، المؤلم أن سنّه ومرضه لا يقويان على السهر أو برودة الليل، واللى رماك على المر؟ الأمرّ منه. أهرب وأزوغ من الشكوى فلا تحتملها قدراتى وطاقتى، والجميع فتح ناره علىّ، وباح بسره الباكى الدامى على يدى، وأنا ما عندى دمع لهؤلاء جميعاً، عفوك يا رب ورحمتك بكل هؤلاء.
 
ومما أثارنى وشد انتباهى وأعتبره بلاغاً لأولى الأمر، وكان سبباً فى ضآلة بعض المعاشات للعاملين فى القطاع الخاص وبعض الشركات المساهمة ذات الصيت والشهرة العالية، هذا التلاعب والتواطؤ مع بعض مكاتب التأمينات الاجتماعية، والتأمين على العاملين برواتب محدودة، بل رواتب رمزية، حتى تسدد هذه الشركات عن العامل أو الموظف مبلغاً بسيطاً وقليلاً من المستحق عليها سداده لصالحه، ولا علاقة له بما يتقاضاه من رواتب وحوافز عالية فترة عمله بالشركة، ولا يفيق صاحبنا إلا يوم خروجه للمعاش فيجد معاشه ضئيلاً ضعيفاً، وهو أمر يستدعى رقابة صارمة وتفتيشاً دقيقاً من المسئولين، ومن السيدة الفاضلة وزيرة التضامن الاجتماعى، بل وأطالبها بفتح هذا الملف الآن وليس غداً، فهو حق للعامل، تستولى عليه هذه الشركات، وهى فى الغالب شركات عملاقة تحقق أرباحاً خيالية وتهضم حق عمالها وموظفيها.
 
ونحن لما نرفع للمسئولين أمر المعدمين والمطحونين من أصحاب المعاشات، فنحن نضع أمام ضمائرهم عجز من عجز ووهن وضعف ومرض منهم، ومنى عينيه أن يعيش البقية البقية مستوراً وسط أهله وأولاده وأحفاده، لا يمد يده لمن كان يوماً باسطاً إليه يديه، أو يكسر خاطره من كان يوماً فضله عليه، وأصبح ظلم هؤلاء عاراً وفضيحة تستوجب الستر والحل، وتضع الجميع أمام ضمائرهم، ولا مفر لهم ولا حجة من قرار أو قانون، ولا مهرب لمسئول صغير متكاسل متهاون فى عمله، كل على قدر مسئوليته وسلطاته. ونقول لكم جميعاً: هذا يومكم، كما كان من قبل يومنا، قادمون إليه لا محالة، كلها يوم أو بعض يوم، وآخر ستقفون فيه أمام الله تسألون عن كل لحظة ظلم أو معاناة أو مذلة للكثير من هؤلاء، اللهم فاشهد عليهم.
 
ولنا مع خيل الحكومة فيما مضى حكاية، إذا استهلك وهرم وعجز عن السباق والمطاردة والركوب، كان يخرج من حظيرته إلى محطة القطار مطأطئ الرأس، منكس الجبين، وكان يوماً ذا جاه وسطوة، يضرب الأرض بحوافره فتهتز جنبات الطريق، ويفر من أمام صهيله السايب والمربوط، ويصطف فى طريقه على الجانبين من يخشى بأسه وصولجانه، صاحبنا الآن يُجر إلى عربة القطار، يدفعه الناس دفعاً إلى داخلها هزيلاً شاحباً عليلاً، يوماً ما كان يقفزها فى نطة واحدة، يُجر إلى المركز حتى يُضرب بالرصاص، فلا فائدة منه اليوم ولا عمل يرجى، وخسارة فيه اللقمة حتى لو كانت من تبن القش.
 
وحتى لا يأخذ أصحاب المعاش على خاطرهم منى، وأنا منهم، فليس ثمة تشابه بينهم وبين خيل الحكومة، بل فى رصاصة الرحمة التى تطلقها الحكومة كما شاءت لقتل عجوز أو لصيد ثمين.
نقلا عن الوطن