بقلم : كمال زاخر
12 ـ تناقضات منظومات التعليم
 
لماذا التعليم؟
يقول نيلسون مانديلا المناضل والزعيم الأفريقى وأيقونة جنوب افريقيا "أن التعليم هو السلاح الأقوى الذى يمكنك استخدامه لتغيير العالم، وهو المحرك الأعظم فى التنمية".
فالتعليم هو منظومة نقل المعرفة للمتعلم وكذلك المهارات والمبادئ والمعتقدات، عبر وسائل متعددة، تبقى "المدرسة" أبرزها وأهمها، ويبقى التعليم الأساسى أهم مراحله، ويقصد به التعليم قبل الجامعى.
 
والتعليم بشكل عام ينقسم إلى قسمين رئيسيين، تعليم اساسى، وتعليم تخصصى، ويغطى التعليم الأساسى سنوات التكوين وفيه تزرع المبادئ الحياتية الكفيلة بصياغة العقل ـ الفردى والجمعى ـ الذى ينتهى إلى صياغة عقل الأمة، ويقاس نجاحه بمدى قدرته على خلق التجانس الوطنى بين أطياف المجتمع، لذلك نجد أن المجتمعات القوية هى تلك التى نجحت فى ضبط بوصلة نظام التعليم الأساسى ـ ما قبل الجامعى ـ بها باتجاه توحيده وتغطيته لكل المجتمع، بلا تفرقة أو تمييز بسبب الوضع الإجتماعى أو الإقتصادى أو الدينى، فيما تبقى المجتمعات الهشة والمضطربة رهن تعدد الأنظمة التعليمية، المتنافرة، بين تعليم خاص وأخر حكومى، وثالث اجنبى، ورابع دينى، وبين تعليم مدنى وتعليم عسكرى، وفى بعض هذه المجتمعات ـ خاصة فى دول العالم الثالث ـ يضاف إلى هذه الأنواع تعليم للفقراء وأخر للأغنياء.
 
فإذا لاحظت فى مجتمع ما تنافراً بين مكوناته فابحث عن التعليم الأساسى فيه، ستجده قائم على روابط طبقية ودينية وعرقية، ولم يؤسس على الرابطة الثقافية التعليمية لذلك يفشل فى أن يحقق التجانس الوطنى ، ولا يقدر بالضرورة على تحقيق أى قدر من التناسق القيمى والثقافى داخل المجتمع.
اللافت أننا فى مصر جمعنا كل ازدواجيات التعليم التى اشرنا إليها، والأخطر أن هذه الازدواجيات وجدت مستقراً لها فى التعليم الأساسى، بل وامتدت حتى مرحلة ما قبل المدرسة، فيما يعرف بالحضانة !!.
وقد يفسر هذا ارتباكات المجتمع وتعميق الفجوة بين مكوناته، فعندما تتناقض المدخلات لابد أن تتناقض المخرجات، ويصير الكلام عن مجتمع متجانس لغو وهراء، ونتحول إلى جزر منعزلة، تفتقر للمشتركات التى تحول التعدد والتنوع إلى طاقة ايجابية لحساب وطن واحد.
 
لهذا تعد قضية التعليم "أمناً قومياً" يستوجب التعامل معها بجدية وحزم بعيداً عن الصراعات السياسية والإنتماءات الذاتية، وبجسارة لا تتهيب ما استقر من أمور ترسخت وصارت تابوهات يحظر المجتمع الإقتراب منها، وقد غلفها بلفائف من القداسة، ولعل أبرزها "التعليم الدينى"، ولا أقصد به "تعليم الأديان"، وانما التعليم العام الذى تتبناه مؤسسات دينية، وهو فى حالتنا الراهنة منظومة المعاهد الأزهرية. وهى ليست بدعة، فقد سبقتنا اوروبا إلى هذا النسق من التعليم، فقد ولدت أعرق الجامعات الأوربية فى أعطاف الكنيسة الكاثوليكية والأديرة، خلال القرون الوسطى، وقد تأسست قرب الكنائس والكاتدرائيات، ودعيت بمدارس "الكاتدرائية"، وكانت هذه المداراس مراكز للتعليم المتقدم، يقصدها طالبو الرهبنة، وبعض من هذه المدارس أصبحت في نهاية المطاف الجامعات الأولى في الغرب. والتى شرعت ابوابها فى تطور لاحق لكل من يقصدها من غير طالبى الرهبنة، بل ومن غير المسيحيين، واتسعت اروقتها وكلياتها لغير الأوربيين، من شتى انحاء العالم، وكانت ابرزها جامعة بولونيا، وجامعة باريس، وجامعة أوكسفورد، وجامعة مودينا، وجامعة بلنسية، وجامعة كامبردج، وجامعة سالامانكا، وجامعة مونبلييه، وجامعة بادوفا، وجامعة تولوز، وجامعة نيو أورليانز، وجامعة سيينا، وجامعة بودابست، وجامعة كويمبرا، وجامعة روما سابينزا وجامعة جاجيلونيان في كراكوف.
 
ولم يقتصر الأمر على الكنيسة الكاثوليكية بل أمتد إلى الكنائس البروتستانتية في الولايات المتحدة، التى اهتمت بالتعليم العام بجوار التعليم اللاهوتى، فأسست العديد من المدارس والجامعات، لعل ابرزها جامعة هارفارد التي تأسست على يد القس البروتستانتي جون هارفارد وجامعة ييل التي تأسست على يد مجموعة من رجال الدين البروتستانت، وجامعة برنستون التي أرتبطت بالكنيسة المشيخية الأمريكية، وجامعة بنسلفانيا التي أسستها الكنيسة الأسقفية، والقائمة ممتدة، وهى ايضاً شرعت ابوابها لكل من يقصدها، بغض النظر عن موطنه أو ديانته.
 
 
 
 
دعونا نقترب من تجربة التعليم الأزهرى باعتبارها تجربة مصرية بالأساس، وقد مضى على طورها الحديث ستة عقود ويزيد، منذ صدر قانون إعادة تنظيم الأزهر والهيئات التى يشملها (رقم 103 لسنة 1961). فهى تتفق مع تجارب الجامعات التى انطلقت من قلب المؤسسات المسيحية سواء فى أوروبا أو الولايات المتحدة الأمريكية، وإن لم تكن شاملة فى اهتماماتها قبل قرار تطويرها، إذ كان اهتمامها منصباً على العلوم الشرعية الدينية الإسلامية، إضافة إلى طيف من علوم الكلام.
 
وتختلف الآراء فى هدف التطوير، فهناك من يرى "أن جمال عبد الناصر أراد أن يعلمن الأزهر بإدخال كليات تدرس العلوم المدنية أو العلمانية نسبة للعلم، وكان التصور أنه لو زادت النسبة العددية للمواد العلمانية سيتطور الأزهر، ولكن ما حدث أن الكليات العلمانية الأصلية كُبلت بالعلوم الدينية وبدلاً من أن تؤثر الكليات العلمانية فى التعليم الأزهرى حدث العكس". وهو رأى جاء ضمن اطروحات الأوراق المقدمة فى مؤتمر "التعليم والمواطنة" الذى عقدته مؤسسة "مصريون ضد التمييز الدينى" والذى استضافه حزب التجمع (ابريل 2009).
فيما يرى أخرون أن الهدف من تطوير الأزهر كان بغرض معالجة الفجوة فى الأثقال التعليمية المنحازة للأقباط بفعل حرصهم على تعليم اولادهم، وانعكاس هذا على وجودهم فى دوائر البنوك والمستشفيات ودوائر الأعمال والإدارة بشكل لافت، ويأتى هذا فى سياق موجة ما عرف فى الستينيات بـ "تمصير مصر".
لكن يبقى ما طرح هنا أو هناك اراء تحتاج إلى بحث ودراسة وتحقيق.
 
الفارق بين جامعات الغرب ذات الجذور المسيحية وبين جامعة الأزهر، هو التطور الذى لحق بالأولى فلم تعد جامعات "اكليريكية" بل شرعت ابوابها للكل، كما اسلفنا، فيما اوصدت الثانية ابوابها أمام غير المسلمين.
 
فيما أرى أن الإشكالية الحقيقية ليست فى جامعة الأزهر، فهى لن تبقى معاندة لحركة التاريخ، وستفتح ابوابها لكل المصريين، على خطى جامعات اوروبا، التى لم تتنكر لجذورها الدينية لكنها تفاعلت مع المد الإنسانى.
 
الإشكالية الحقيقية فى منظومة المعاهد الأزهرية التى تشمل مراحل التعليم قبل الجامعى، لأنها تعمق الفجوة بين مكونات المجتمع، فتلاميذها يعيشون فى عزلة تامة عن الحياة المجتمعية السوية، إذ يبقون فى مرحلة تشكيل اذهانهم لا يتعاملون إلا مع المشتركين معهم فى الدين والنوع، فالطلبة يعيشون هذه الفترة الممتدة من الطفولة المبكرة حتى عتبات الشباب مروراً بالصبا والمراهقة لا يعرفون شيئاً عن اقرانهم من غير المسلمين أو الإناث من المسلمين، والأمر كذلك مع البنات، إلا ما وقر فى ذهنهم من تصورات ما يتلقونه من دروس اخرجتها كتب العصور الوسطى.
 
ولعلنا نكون قد اقتربنا بقدر من تفكيك الحالة المصرية المعاشة، ومحاولة فهم عقلية وطرق تفكير طيف من الشباب انضوى بارادته تحت لواء الجماعات الإرهابية، فى اتساق كامل مع ما استقر فى عقله ووجدانه بامتداد سنوات الطفولة والصبا وبدايات الشبيبة.
 
وظنى أننا بحاجة إلى اعادة هيكلة تجربة الأزهر التعليمية فى المجال العام؛ فتضم المعاهد الأزهرية التى تضم مراحل التعليم قبل الجامعى إلى وزارة التربية والتعليم، وتبقى المرحلة الجامعية فى حوزة مؤسسة الأزهر، على أن تستكمل تطورها بفتح ابوابها لكل المصريين، سواء فى صفوف الطلاب أو فى صفوف هيئة التدريس، وتُضم جامعة الأزهر إلى المجلس الأعلى للجامعات، لنضع نقطة فى نهاية سطر ازدواجية التعليم، ونخطو خطوة واسعة فى بناء التجانس الوطنى وصياغة العقل الجمعى لحساب مستقبل آمن ومستقر.
ومازال الاقتراب قائماً