مازال رفعت علي يُباهي الناس بأبنائه، يُحب أن ينادونه بـ"أبو الدكتورة آية"، يحكي بفخر عن شقيقتها أمنية، التي رافقتها في معظم رحلاتها الدراسية للقاهرة "عشان تونّسها" رغم أنها ليست طبيبة، لكن حين وقع حادث للميكروباص الذي يحمل الأختين، بات مُصاب الأب مُضاعفًا.

الأربعاء الماضي، وفيما تسافر آية وأمنية رفقة 12 طبيبة أخرى، اصطدم الميكروباص بسيارة رُبع نقل على الطريق الصحراوي الشرقي، أمام مدخل بوابة الكريمات بمحافظة الجيزة، ما أدى لوفاة 3 طبيبات والسائق، ونقل الأخريات لمستشفى 15 مايو والصف، ثم معهد ناصر.

في غُرفة 61 بالمعهد، تمكث الشقيقتان. انقسم المكان لصالة يستقبل فيها الوالد القادمين، بينما كان للشقيقتين غُرفة منفصلة يتعافيان فيها مما حدث، تتنقل بينهما ابنة عمّتهما، تُساعد إحداهن على تناول الطعام، وتواسي الأخرى، يُزجي الأب الوقت بالحديث لأخيه الموجود وبقية الأقارب، يبسط الهدوء أجنحته على الموجودين قليلا، بعد اطمئنانهم على حالة الفتاتين.

في الثامنة صباحا يوم الحادث، استقبل الأب اتصالا من مُسعف "بنتك أمنية عملت حادثة وهي كويسة وهتكلمك"، وصل صوت صاحبة الـ22 عاما للأب متقطعًا، وصفت له بكلمات قليلة ما حدث، واستكمل رفعت الرواية من الشهود على الحادث فيما بعد.

كان سائق ميكروباص الطبيبات يسير بسرعة عادية "لأنه الحادثة وقعت 7 ونص الصبح كان بقالهم 3 ساعات متحركين من المنيا.. معناه إنه مكنش سريع زيادة".. يستطرد العم، فجأة توقفت شاحنة في الحارة اليسرى من الطريق، اضطر السائق للتوقف أيضا ليتفاداها، فاصطدم بسيارة رُبع نقل، ومات في الحال.

"وائل كان حد محترم.. عارفينه من زمان"، ينفي الأب عنه الخطأ، يصف شعور ابنته أمنية بالذنب تجاهه "لأنها هي اللي كلمته ليلة الحادث وقالت له إن الوزارة طلبت أختها ومحتاجين يروحوا القاهرة"، وحين استفاقت أمنية في المستشفى ظلت تُشدد أنها سبب موته من فرط صدمتها. لم يتأخر السائق عن اصطحاب الفتيات، اتفق معهن على أخذ أجرة الذهاب والعودة فقط، رغم أنه كان سينتظرهم طوال اليوم في القاهرة "سبحان الله.. راح لربنا ومخدش حتى الأجرة بتاعته.. قال لهم لما يتم المشوار".

أمنية هي الأخت الأصغر للطبيبة آية، تخرجت الأولى في كلية التربية قسم رياض أطفال "بتحب تشتغل مع الصغار جدًا وبتحاول تعلمهم بطرق مختلفة"، غير أنها ما تخلّفت عن دعم شقيقتها يومًا "بيروحوا مع بعض القاهرة دايما وأحيانا آية بتسافر لوحدها".

في معهد ناصر، اكتشف الأطباء إصابة أمنية بشرخ بسيط في الحوض، ورضوض في الجسد، بينما اُصيبت آية بنزيف أنفي شديد وشرخ في الفقرة العاشرة، لن يستدعي إجراء عملية جراحية، حيث أخبر الأطباء الأهل احتمالية خروجهما يوم الأحد.

منذ صغرها، عرف الآب أن آية ستصبح طبيبة. يبتسم ناظرًا إليها "كان المُدرسين يكتبولها في الكراسة برافو يا دكتورة آية"، ظل الهدف أمام صاحبة الـ26 عامًا دائمًا، حتى أن مجموعها الدراسي أهلّها للالتحاق بطب عين شمس، غير أن ذلك كان في 2011 "والقاهرة فيها مظاهرات كتير فخوفنا عليها وحوّلنا على المنيا"، يُحوقل رفعت قبل أن يضيف بسخرية "آدي اللي أخدناه من الطب".

لم تكن مهنة طالبة التكليف بسيطة، عايشت ضغوطا مختلفة بين الاختبارات والتدريب والتنقل من المنيا للقاهرة، إلا أن آية ظلت سعيدة بمهنتها "كنت بقولها مادام بتحبيها مش هتحسي بالتعب"، في المقابل، كرّست أمنية وقتها لمهنتها أيضا، فمن خلالها تعرّفت على السائق الراحل "كانت أمنية مشاركة في حملة للتوعية في قرى المنيا وكان بيتحرك معاهم"، ما ينفك الأب يذكر السائق في حديث، يترحّم عليه ويعد بزيارة منزله وتقديم واجب العزاء بمجرد خروج ابنتيه.

اللغط الذي اُثير حول الواقعة، وصل لـ رفعت أيضًا. قبل الحادث بيوم أخبرته آية بتكليف الوزارة "قالولهم لازم تيجوا بكرة"، لم تعترض الفتاة، حاولت حجز أتوبيس فلم يُسعفها الوقت "قولتلها خلاص نأجر ميكروباص"، لا يُلقي رفعت اللوم على أحد بعينه؛ يُشدد على أن الطريق جيد، خاصة أن بُقعة الحادث بها خدمات "بدليل إن الإسعاف وصلت بسرعة جدًا حسب ما الناس حكوا لي"، فيما يشعر بغصة تجاه سائق السيارة التي توقفت فجأة أمامهم "زي ما فيه قضاء وقدر فيه كمان خطأ بشري".

يُقدّر الأب حاجة الوزارة لحضور الطبيبات للقاهرة "بس طالما عايزينهم فجأة كانوا وفّروا وسيلة مواصلات".

بعد الحادث، بات الأب يأخذ بالأسباب بصورة أكبر "لما جيت أركب واروح لهم أخدت أتوبيس.. كله قدر بس نكون عاملين اللي علينا"، لن يمنع ابنتيه من السفر، بل سيشجعهما لتعودا لنشاطهما، يُطمئنهما طوال الوقت، تشكو له الطبيبة آية أنها لا تتذكر شيئا عن الحادث "صدمتها كبيرة.. نامت وصحيت لقت نفسها في المستشفى"، بينما يُخبر هو أمنية عن الأطفال الذين يسألون عنها في مدرسته حيث يعمل كمدرس لغة عربية، يشتاقون لحصص الرسم معها، وينتظرون عودتها بفارغ الصبر.