د. محمود العلايلي
يعقد الأزهر مؤتمرا عالميا آخر الشهر الجارى «لتجديد الفكر والعلوم الإسلامية»، وهى الدعوة التى تطلقها مؤسسة الأزهر بجدية شديدة، بينما يتناولها البعض بحالة من عدم التصديق من أن تتبنى مؤسسة الأزهر دعوة عالمية للتجديد، بالرغم مما عُرف عن الأزهر على مر تاريخه وحاضره بانتهاج مواقف أصولية متشددة، واعتماد مرجعيات تجاوزها الزمن وصارت خارج إطار الواقع المعيش.

والحقيقة أن هذه المؤتمرات- التى يُنفق عليها من أموال دافعى الضرائب المصريين- تأتى فى إطار محاولات الأزهر لتغيير الصورة النمطية عنه، وفى وقت تُصر الغالبية على التباحث فى محتوى الخطاب، ويتم- عمدا أوسهوا- إغفال التحدث فى آلياته، لأن المحتوى ما هو إلا تكرار لنصوص محفوظة عن السلف، يردده شخص أو تتقدم به مؤسسة بطريقة انتقائية، أما الوسيلة الأخرى، وهى فلسفة الخطاب الدينى التى تبدأ بفرض هالات القداسة، ثم يتم شرح الدين بحسب المفهوم والمعتقد الخاص، بل والأهم بحسب الأهداف غير المعلنة من هذه الشروحات، ولذلك سواء كان الخطاب تكرارا لنص محفوظ منتقى، أو شرحا فلسفيا لأهداف مخفاة، فإن المجادلة فى المحتوى لن تؤدى إلا إلى الدوران فى حلقات مفرغة لا نهائية، لا ينتج عنها إلا أصوات بلا معنى، عبارة عن رجع مشاحنات بدأت منذ مئات السنين ولاتزال تدوى أصداؤها.

إن الأفكار التى تنتاب البعض فى التفكير بأن رجال الدين يمكن أن يتخلوا عن الخطاب الدينى طواعية، لهى من قبيل الهذيان، بالرغم من محاولة وصف بعضهم بالتسامح أو بالتعبير الساخر المتداول «الوسطية»، فإن الخطاب الدينى لا يمثل لهم لقمة عيشهم فقط،

.. ولكن قيمتهم الاجتماعية عن طريق الاستعلاء بالدين، وسلطة لا يمكن أن يتمتعوا بها إلا بقدر ما يمتلك جمهورهم من محدودية، وبما يمتلكون من عقلية يميزها الحفظ والتكرار، وفى ذلك يتساوى مقرئ المقابر مع أغلب من نالوا أعلى الشهادات الدينية أو ارتقوا فى المناصب، وبالتالى فإن الإصرار على إعطاء رجال الدين مهمة إصلاح الخطاب الدينى أو تطوير الفلسفة الدينية هو إصرار على إعادة إنتاج نفس الخطاب وتكرار نفس الفلسفات، لأن التبسيط فى الفهم بأن آليات الإصلاح على نفس استقامة آليات الإفساد ولكن عكس اتجاهها، وبالتالى يصلحها من أفسدها، سيؤدى دائما إلى أن نعود لسطوة رجال الدين وتلاميذهم، برعاية المؤسسات الدينية وحمايتها.

إن ما يسمى «الخطاب الدينى» لم يعد خطابا فى الدين ولكنه صار خطابا سياسيا حتى لو لم يتناول السياسة، ولذلك وجب أن تضطلع كل مؤسسة بمهامها، وعليه وجب أن تقوم المؤسسة السياسية بتجديد الخطاب الدينى وتطويع الفلسفة الدينية بما يخدم أهدافها وبما لا ينال من جوهر الدين وروحه، وذلك يستلزم الخروج من إطار أى مؤسسة دينية وتفعيل كوادرها كإحدى أدوات الإصلاح، وليسوا كشركاء فى التخطيط، على أن تضع المؤسسة السياسية الاستراتيجية العامة، ويقوم المتخصصون فى علوم الأديان- من غير المشايخ- بوضع الفلسفة المطلوبة باستخدام العلوم الحديثة، مثل علم الاجتماع والتاريخ واللغويات والقانون بالإضافة إلى التفسير والقانون الوضعى.

فى سياق آخر، يُحكى أنه فى إحدى الجزر المنعزلة أن السياسات العلاجية والدوائية المتردية للمؤسسة الطبية بها بالإضافة للتعليم الطبى المتدهور قد أدى لانتشار العديد من الميكروبات بالجزيرة، بالإضافة لاستوطان مرض خطير، وإلى هنا فالحكاية خالية من التشويق، أما المدهش فيها حقا فهو أن إدارة المستشفى أخذت على عاتقها بنفس سياساتها وبنفس طاقمها الطبى ليس فقط مهمة تطهير الجزيرة من الأمراض، ولكن نشر الخبرة للعالم عن كيفية العلاج ومواجهة المرض الخطير ومنع انتشاره، ولمزيد من التشويق فإن سكان الجزيرة كانوا يثقون فى المؤسسة الطبية وقت انتشار الأمراض، والأنكى أنهم مازالوا يصدقونها فى مرحلة الادعاء بمحاصرة المرض وإيقافه.
نقلا عن المصرى اليوم