كمال زاخر

قبل أن نتتبع مشوار الإرهاب، استأذن القارئ فى التوقف عند ظاهرة لافتة، وهى انطلاق أغلب التحليلات المتعلقة بالأقباط ووضعيتهم فى الوطن بإقرار ما هو قائم واعتباره من البديهيات، حتى عند الأقباط أنفسهم، ربما بفعل إلحاح الآلة الإعلامية، والتكرار اليومى فى الحوارات البينية وعبر وسائل تشكيل الذهنية العامة، الدراما بتنويعاتها، والتعليم بمختلف مراحله، وعوالم السياسة، والندوات المفتوحة والمغلقة، وفى كثير من دوائر التنويريين، حتى صار الأمر خبز يومنا.
 
استقر عندنا أن مصر دولة اسلامية، ومن ثم يخضع الأقباط لأحكام الشريعة الإسلامية، حتى ذهب بعض الفقهاء القانونيين إلى اعتبارها العمود الفقرى للنظام العام، ولم يُترَك للأقباط إلا أحوالهم الشخصية، والتى لم تسلم من ظلال الشريعة، فهى تلاحقهم فى قوانين الميراث، والتبنى، وفى قضايا الطلاق حال اختلاف الطائفة، رغم أنها من صميم أحوالهم الشخصية التى توجب تطبيق "أحكام شرائعهم"، بحسب المادةالثالثة ـ الملتبسة ـ فى نسختى 2012 و 2014 من الدستور.
 
ولعلنا ندرك أن مناقشة أمر النصوص الدينية بالدستور لا ينسحب إلى الدين نفسه، فالدين يخاطب معتنقيه، فيما تخاطب النصوص الدستورية كافة المواطنين على تنوعهم وتعدد انتماءاتهم وعقائدهم، وهو، الدستور، يرسم خريطة الحقوق والواجبات تحت مظلة المساواة والعدالة بغير تمييز يبنى على اللون أو الجنس أو المعتقد الدينى أو غيرهم من التمايزات الشخصية، ومن ثم فالنص على دين للدولة فى الدستور أمر يحتاج إلى مراجعة، وتصويب، باتجاه دولة المواطنة، وهو ما ذهبت إليه دساتير العالم الأول.
 
وفى يقينى أن هذا أمراً ليس سهلاً، ويحتاج إلى جهود تنويرية مدروسة ممتدة وجسورة وصادقة ومتجردة، فى مواجهة حراس المعبد الذين يرون أن الإقتراب من تلك النصوص مؤامرة مرتبة للنيل من الإسلام، وقد عرضنا لنموذج من هذا التصور حين اقتربنا مما كتبه الشيخ محمد الغزالى فى كتابه "قذائف الحق"، 1991، وقد استقر ما قال به عند كثيرين.
 
وتمتد المواجهة إلى ما وقر فى الذهنية العامة، لعقود، حتى صارت من المسلمات، وزادها رسوخاً الإخفاقات السياسية والإقتصادية عبر سنوات ممتدة كانت زاداً لدعاة تديين الدولة والمجال العام، والتى تصاعدت وتيرتها فى اعطاف هزيمة يونيو 67، فى مقابل الطفرة الإقتصادية التى شهدتها دول الجوار النفطية، عقب وبسبب حرب اكتوبر 73، وارتباك موازين القوى معها، وكانت الهجرة المؤقتة للعمالة المصرية وقتها لتلك الدول أحد أهم العوامل التى رسخت نسق تدينها فى المجتمع المصرى، واعتباره النسق المتسق مع صحيح الدين.
 
لكن الأمر لم يكن عفو الخاطر فالسياسة وصراعاتها كانت من وراء القصد، لم تستطع منطقتنا التعاطى مع الحداثة، ولم تكن قادرة على اللحاق بركب التقدم التقنى والفكرى الذى سارت وتسير فيه دول العالم الأول، أو حتى دول النمور الأسيوية، وبعضها لم يكن يملك ما تملكه دول شرقنا العربى، فلا مواد خام، ولا أراض زراعية، ولا ثروات طبيعية، ولا طبيعة مستقرة، لكنها انتبهت للثروة البشرية، فحولتها من عائق إلى فاعل فى التنمية، فيما اهدرت منطقتنا ما توفر لها من عوامل ايجابية كانت تنتظر توظيفها فى تنميتها، كانت ومازالت انظارنا متجهة إلى الماضى، فيما كانوا يمدون أنظارهم إلى المستقبل.
 
الذاهبون إلى الماضى رتبوا أوراقهم وساروا بها عكس حركة التاريخ، نجحوا فى اختطاف الدستور بشكل متواتر إلى مربع الدين، شكلاً، فيما الواقع يئن من ارتباكات الفساد وازدواجية وتناقضات القول والفعل، وتوفير غطاء يشرعنه ويبرره ويسميه على غير حقيقته، وانطلقت كتائب التبشير به وتقديم مسوغات قبوله، بشكل مكثف، بين دعاة تقليديين ودعاة جدد، تدعمهم سلطة لا تملك رؤية نهضوية تنموية، وظفتهم لتثبيت اركان حكمها، وعلى خطى الدعاة جاءت موجة الفعل السياسى، فظهرت الأحزاب السياسية اليمينية الراديكالية، التى اجادت توزيع الأدوار، وخرجت فى مجملها من عباءة جماعة الإخوان، بتنويعات مختلفة، ومن تحالف الدعاة والأحزاب تخلقت طبقة من الشباب تبنى الإرهاب آلية لتحقيق حلم اعادة بعث دولة الخلافة. بغطاءات فقه الجماعة.
 
إذاً فالمشهد المعاش يشترك فى رسمه عدة محاور :
• الإرادة السياسية وحساباتها مع الأثقال السياسية فى المجتمع، وقدرتها على تحريك الشارع،
 
• والمنابر الفكرية التى تجيد العزف على وتر العاطفة الدينية وخبرة تضفيرها مع اخفاقات التحقق التى تلاحق الأجيال الواعدة.
 
• والتنظيمات السياسية المعلنة عبر الأحزاب الدينية، ونظائرها التى تعمل تحت الأرض أو عبر المؤسسات الخدمية الإجتماعية.
 
• والقوى الإقليمية التى تسعى لفرض رؤيتها وسيطرتها على الإقليم.
 
• ولا يمكن اغفال الدور المحورى الذى يقوم به العالم الإفتراضى، باعتباره الساحة الأكثر اتساعاً وتأثيراً فى ادارة الصراع بين الدولة الحديثة، دولة المواطنة، وبين جماعات التطرف الساعية لقيام دولة الخلافة، وخطورة عامل العالم الإفتراضى أنه خارج السيطرة واتساع مدارات تأثيره، وتطور ادواته بشكل يصعب ملاحقته، وينقل الصراع إلى مربع التقنيات.
 
هل نحتاج مجدداً إلى تأكيد أن الإرهاب يبدأ فكراً؟.
وهل نحتاج مجدداً أيضاً إلى ادراك أن مواجهته تحتاج إلى تضافر كل القوى المدنية واعادة الحياة والثقة إلى آليات تشكيل وبناء الذهنية العامة والعقل الجمعى؟.
 
وهل نحتاج مجدداً ـ ثالثاً ـ إلى الإقرار بأننا لا نواجه "دين" بل نواجه تسييس الدين، من البعض، وأننا لابد أن نسير خطوات واسعة فى فصل الدين عن السياسة وعن الدولة، وليس عن المجتمع، الأمر الذى يتوجب معه اعادة صياغة الدستور خلواً من المواد الدينية، حتى نؤسس لدولة مدنية كما خبرها العالم المتقدم؟.
 
ومازال للطرح بقية.