القمص أثناسيوس فهمي جورج

المؤسسات عمومًا كائن حي ينمو ويتطور ، يمرض ويتعافَى ؛ لكنه يموت عندما يعطب ويفقد القدرة على تجديد خلايا أجهزته ، فيفقد صلاحيته كشجرة التين اليابسة. عمل المؤسسات يشبه جسم الإنسان :
 
جهازه الهضمي هو وحدة اتخاذ وطبخ القرارات.
جهازه العضلي هو التنفيذ.
 
جهازه التنفسي في علاقاته وخريطة اتصالاته.
جهازه العصبي في تدبيره الإدارﻱ والفكرﻱ والقانوني.
 
لكن هذه الأجهزة لا تعمل بمعزل عن بعضها ، وإنما تعمل وفق منظومة متكاملة متفاعلة ومتداخلة في هارموني (Harmony).. عاملة مثل الأرغن من دون اختلال ؛ لأن نجاح المؤسسات لن يكون برفع الشعارات الشكلية ؛ ولا بمظاهر قشرية لذرّ الرماد في العيون. إذ أن هدف العمل المؤسسي الكنسي إلهي ؛ وخطته أبدية ، ولا بديل عن تهديف خطته تحت كل المسميات النوعية ؛ سواء كانت مؤسسات تعليمية أو رهبانية أو تربوية أو اجتماعية ؛ لأنها ستبقى هشة رملية لو انحرفت عن الهدف والخطة والقصد الالهي .
 
سلامة أهداف مؤسسات الكنيسة هي علامة على أنها حقًا وفعلاً تعمل كجسد المسيح الواحد ، الزاخر بالرتب (إدارة الأفراد) والأوامر المتنوعة (بحوث العمليات)، تأكيدًا على يقينية حياتها في المسيح يسوع مؤسسها ، الذﻱ له فضل القوة في كل أعمالنا لا لمجهوداتنا البشرية ، وبقوة وفعل الروح القدس الذي يرشد ويقوي وينصح ويقود الي كل الحق .
 
أما عملنا ( دورنا ) نحن وخدمتنا المؤسسية هي جوهر عضويتنا الحية التي تربطنا مع جميع المفاصل التي تقوم بأدوارها داخل الجسد الكنسي الواحد. ، ويتم بها قيام كل عضو بعمله المواهبي الخاص (التنفيذ وإدارة الإنتاج) ، فننمو ونتكامل ونبني بتوافق مع اتجاهات العصر الصحيحة (التقييم) ، في نمو متواصل وممتد ؛ يجعل بداية مؤسساتنا مهما كانت صغيرة تكبر بعمل الله وقوة قدرته ، ”عَمَلاً عَظِيمًا أَعْمَلُ فِي أَيَّامِكُمْ لا تُصَدِّقُونَ إِنْ أَخْبَرَكُم أَحَدٌ بِهِ“ (أع ١٣ : ٤١). بدايات تأخذ انطلاقها كلما لا تُحتقر فيها الطاقات أو تتعطل ؛ لأن الحقل متسع للجميع ، تحت مظلة محبة ورحمة فلاحة الزارع الذﻱ ننتقل به ومعه من الفكرة (البذرة) إلى التنفيذ (الغرس والسقي) ، من النبت حتى الحصاد (الإثمار)، غرس نقتات منه ؛ وجذور تتأصل ؛ وأغصان تمتد لتجمع شتات كثيرين في مناحي كل مؤسساتها.
 
المسيح رئيس الحياة هو قائد كل مؤسسات الكنيسة ، وهو المعلم في مدارسها ، والدياكون الأعظم في خدمتها ، ومعطي جميع الخيرات في أعمال تنميتها ، والمدبر للجانها ومجالسها ، والطبيب الشافي لمستشفياتها... يترأسها كما يترأس الحياة كلها ، ويجعل الإنجيل دستورها ؛ لتزرع وتنشر بركاتها بدقة واستشفاف لا تخطئه الملاحظة.. فتجرﻱ أعمالها بقوة عظيمة من أجل خلاص النفوس التي تحتل في كل مؤسسات الكنيسة مركز المنارة ؛ لأنها مؤسسات كنيسة رسل الحمل ، يستند أداؤها وجَوْدَتها لمعيار الكلمة الإنجيلية Kερυγμα (كيريجما) ولفكر الكنيسة العقيدﻱ Δόγμα (دوجما) ، بحيث كل من يتعامل معها يتحقق أنها مؤسسات للمسيح ولأجل المسيح وبالمسيح ، ليس مسيح التاريخ بل مسيح الآن وكل أوان ، مسموعًا ومنظورًا في أعمالها سواء كانت (مستوصف - مدرسة - مكتبه- معهد - إكليريكية - تربية كنسية - مستشفى - مجلس – لجنة - مركز تدريب - مركز تأهيل - مركز علاج...) فهناك فرق بين مؤسسة المسيح وأﻱ مؤسسة أخرى تؤدﻱ نفس النشاط ؛ لكن بروح وفكر وهدف مختلف.
 
مؤسسات الكنيسة تعمل من أجل الشهادة لصاحب الإنجيل بأعمال دياكونية تليق بعطاياه ، في ترابط وتكامل ؛ من إخفاق إلى نجاح ، ومن التردّﻱ إلى الجودة ، لتظهر صورة هذه المؤسسات كإنطباق المثل على المثيل. وهو ما برز في كتابات آباء الكنيسة : إغناطيوس الأنطاكي وإيريناؤس وكبريانوس أسقف قرطاجنه الذﻱ كشفت عنها شخصيته كلاهوتى متميز Distinctive Theologian في الإدارة الكنسية. فهؤلاء جميعًا قدموا رؤية آبائية سجلت التحرك للبناء الإلهي على أيدﻱ بنّائين متخصصين ؛ كلٍ في مجاله.. أما الرسم البياني سبق وأن صممته يد الله التي وزعت الأدوار والمهام والوظائف ؛ وفقًا للمواهب ”أدوار الحكمة“، ووفقًا للحظة الزمنية ”الأزمنة والأوقات“، وجدولها الجغرافي (أورشليم واليهودية والسامرة وأقصى الأرض) ، وإدارة أفرادها (التلاميذ) ومركز تدريبها (العِلِّيَّة) ومضمون عملها يتم ب (المواظبة)؛ بمشاركة الجموع التي امتدت إلى نحو مئة وعشرين (أخًا).
 
هذه الرؤية تدعو إلى التخطيط والتقييم للعمل المؤسسي الجماعي ؛ الذﻱ منه نعمل معًا ؛ لا يلغي أحد الآخر... ففي الكنيسة ومؤسساتها ؛ لا شيء محجوب ؛ لأنها منذ البدايات لم تحسب حسابًا لوجود متفرجين فيها ، سواء إداريًا أو غير إدارﻱ ؛ لأن في ذلك تناقضًا صارخًا مع طبيعة حياتها التي تشكِّل جسدها الواحد لاهوتيًا وكنسيًا. ووجود الرعاة على رأس مؤسساتها ؛ لا يمنع أنهم ضمنها ؛ لأنهم أيضًا قطيع للراعي العظيم وليسوا معصومين ، فلو كانوا خارج القطيع ؛ لَمَا كانوا فيه ؛ ولا استطاعوا أن يكونوا رعاة يرعَوْنَهُ ، لا كمن يسود ويتسلط على الأنصبة (أﻱ يحْجُرون على حرية رأيه)؛ بل كقدوة محبة واحتمال في قياداتهم التي لا تلغي المواهب ؛ ولا تلغي عِلْم وتخصص وتفوق بقية الأعضاء ، الذين يتألف منهم العمل المؤسسي ؛ وفقًا لفاعليتهم ودرساتهم وخبراتهم ودورهم الوظيفي والحركي... حيث طبيعة كل فعل تتنوع وتختلف عن مثيله.
 
والفعل في الكنيسة يعني خدمة ، ولكل خدمة موهبة موافقة ؛ إذ لا يمكن أن توجد خدمة أو موهبة لا تشهد لمشيئة الله ؛ التي ترتب الأدوار والوظائف سواء كانت : ضبط النظام بين المصلين أو حراسة الأبواب وترتيب موائد الأغابي ، وأعمال التعليم والتدريب اللاهوتي ، وزيارة المساجين والمرضى ، وإدارة ممتلكات الكنيسة والأعمال الخيرية تجاه الأرامل والأيتام والمنقطعين ، وتثبيت المعترفين ، ومسؤلية دفن الموتى ، وتكفين الشهداء وكتابة سِيَرهم ، والاتصال بالشعب ، وتوجيه الأغنياء ، والمحاكم الروحية ، وتحذير المتخاصمين ، ومجالس المصالحة والمشورة والاتصال ، وحل المشاكل ؛ والدياكونيا والمعاونون ، فبعض هذه الاختصاصات ولَّى ، والكثير منها هَلَّ.
 
ورجعة على ميكانيزم العمل المؤسسي للكنيسة المعاصرة ، يجعلنا نستلهم رؤية رجاء لترفَع مؤسساتنا صوتها في العالم ؛ بالتعليم والشفاء والتنمية والإعلان والتدبير الملهم ، في أعمال منتجة ومثمرة ؛ مثلما كانت مؤسسة الباسيلياد في زمن باسيلوس الكبير.. ومثلما ارتفع مجد مدرسة الإسكندرية اللاهوتية ؛ كرسي الحكمة في العالم ، في زمن كليمنضس وأوريجين وديديموس. ومثلما انتشرت مؤسسات وقوانين الرهبانية الباخومية وغيرها. هذه الرجعة توفر الأجواء الكنسية التي تصمم ميكانيزمًا مؤسسيًا ، على مستوى الكرازة والإيبارشيات والدوائر الرعوية في المدينة والحي والقرية. مع أخذ الكيان العددﻱ للكنيسة المعاصرة الآن في الاعتبار ، وما ينبغي أن تكون عليه مؤسساتها من رسوخ واستمرار ، لتناسِب عضويتها المليونية ، لنقوم باسم يسوع الناصرﻱ ”فَوَثَبَ - ووَقَفَ - وصَارَ يَمْشِي - ويَطْفُرُ“ (أع ٣ : ٣) وتتدعم مسيرة مؤسساتها.