تأليف – روماني صبري 
"تطفح الروح سعادة من حركاتها الأربع .. في كل مرة استمع ألي "سيمفونية شهرزاد" ثبت لي ذلك، أن "ريمسكي كورساكوف" كن للشرق أشد الاحترام معترفا بجماله وسحره رغم غرقه في الترهات.. ولكن أي شرق كان يقصده الرجل الروسي ؟!" .. جلس على الأريكة صديقنا العجوز كاتب القصص صاحب القول الذي ذكر في أفضل مؤلفاته، ينظر إلى مكتبته الزاخرة بقصصه الشهيرة يقول في نفسه : لطالما تحدثت المدينة عن أعمالي وها أنا أنا اجلس الآن وحيدا بغرفتي المبعثرة والرياح الشديدة وكأنها تريد نزالي في مبارزة هي القوية التي انبلجت من الطبيعة تنفيذا لإرادة الله الذي وحده يعلم ما نزل بالقلب من حزن كونه رفض قواعد مدينته، علاوة على الإصلاحيين البلهاء الذين باتوا يكنون لي كل الاحترام مؤخرا .. نشرت الرياح الفوضى بغرفته ها هي أواني الفخار سقطت على الأرض وتحطمت، أما قطته الهادئة فشرعت تبحث بين الحطام عن شيء تأكله أو جماد تلعب معه، حتى قررت أن تظفر بدفئه فقفزت عليه وراحت تمعن فيه البصر في محاولة لنسيان ليلة دامية، لا ينجح في نسيانها ألا المتغطرسون المصابون بأشد النرجسية.
 
رأى الكاتب أنه سيئ الحظ فقير بالحياة منذ المراهقة، استبد به هذا الشعور من سنوات طويلة والله يعلم أن إنكار ذلك ضربا من الجنون، لكنه عاد ليطفح من جديد بروتين قاس من السهل أن يزعج شحاذ مدينتنا الذي بات الغضب يتأجج مثل نيران المدفئة بقلبه منذ أصابه السرطان اللعين، ليس من الضروري تقليب الوجع بمعاناة صديقنا الآخر على أي حال ما زال نصف واع ويستطيع معاشرة زوجته وخوض مشاجرات جديدة معها جراء عدم اهتمامها بنظافتها الشخصية ! .. لم يلعب كاتبنا مع قطته الجديدة منذ شهر كذلك لم يمتطي صهوة حصانه ولهذا أسبابه، حيث اكتشف أنه كتب قصصا درامية خلت من البهجة، وفشل في كتابة أخرى تبث الفرح بقلوب سكان المدينة، كهذه التي تتناول القصص الرومانسية بعدما يدلف الحبيبان إلى غرفتهما ويمارسان الجنس، عبر تجسيد الحميمية على الورق.
 
الرجل حزين، أخذ حياته دوما على محمل الجد فحاول مرارا الهروب من هذه الكيفية التي يلجأ إليها البعض للنجاة بأنفسهم، هربا من الصدمات والفقر ، لا استطيع أن اخفي عليكم بان قصصه شديدة الواقعية تعكس آراءه وفلسفته، ردد دائما في نفسه مقولة صديقه الوحيد "جامع القمامة " الجميع مرضى حتى نحن الذين صمنا عن الزواج مجبرين"، انه ما يبشر أن نهايته سيعرفها السلام، دعونا نعود إليه، ها هو يبصر غرفته متمردا على كل شيء يقول " إنه أمر سيء لي أنا صاحب اللحية البيضاء الأعزب الذي لم يحب الظهور على شاشات الميديا".. خيل إليه أن ضوء القمر ينير إحدى كتبه وسط الفوضى، فذرع غرفته جيئا وذهابا حتى أمسك الكتاب وراح يقلب أوراقه بطريقة عشوائية، اها دعوني أخبركم .. قطته غلبها النوم باتت تحبه منذ أيام مضت !، أيقظها بصوت عال وأختصها قائلا :" كم أنت مغفلة ! .. هذا ما يظهر عليك وليشهد الله على كلامي .. عندما يعيش في الغرفة إنسان واحد، على الحيوانات أن تستمع أليه ” .. عدلت القطة من نفسها وشرعت تتمشى على الأريكة صوبه، فتأبطها وشد عضلاته الهزيلة حتى لا تسقط أرضا هي البارعة في القفز كمثيلاتها !، بعد ثوان تذكر، استقرت القطة فوق كتفيه وتشبثت بقوة معتمدة على أظافرها التي أغمدتها بمعطفه، داعبها كثيرا ألان ! .
 
 
بعد أن انقضت عشر دقائق، قرأ لها بصوت عال كلمات وعبارات مشهورة من كتابه ووجهه يلمع من كثرة العرق بكيفية عشوائية "كنت أعلم أنني سأحبهم قبل أن يصاحبني المرض، فتلك هي غرابات الأشياء"..  "سارت في طريق الوادي ليلة بأكملها واكتشفت أنها أدركت حقيقة القمر الليلة فقط غير مكترثة بقتلها لزوجها تنفيذا لرغبة عشيقها".. "عاودت الأم التفكير مرة أخرى وغفرت لزوجها مقابل أن يسمح لها باعداد كعكة ويمنحها قبلة، قائلة " هؤلاء الرجال لا يعرفون شيئا عن نكران الذات مثلنا" .. ظن أن الموت يقترب منه رويدا رويدا وعندما صارعه، اكتشف أنه قاس لا يصارعه أحد فعلم أنه كان يصارع القلق ليس أكثر وانه فشل في أن يواريه عنه ، فأمن أن القلق لا يمكن نصب فخ له بسهولة" .. وتابع كاتبنا يقرأ من كتابه " أتمنى أن أرى القاتل لأقتله إذا استطعت .. أعرف أني أصعب الأمر لكني بشري وأستطيع التخيل." 
 
 
كل المعاني الجيدة ذهبت إلى جامع القمامة الفقير، هو من علم سكان مدينته احترام الفقر، أو بشكل أوضح جعلهم يتصنعون ذلك حيث سكنهم الحرج إزاء قوته وثباته .. أحب الرب ودفع من ماله للفقراء .. نعم أنا أتذكر الرجل لم يحلم بامتلاك زورق لأنه أحب البرق.. جالس صديقه الكاتب كثيرا ودخنا التبغ ، لاسيما عندما يهبط الليل في موعده، انه كالموج المترامي في أحلام الأطفال، عندما أبصر طفلة صغيرة جائعة قال لها: “اطمئني... أقسم لك باسم الرب أنها ستكون ليلة من أجمل الليالي... سنأكل ونطعم بعض العصافير ثم سنلهو مع الكثير من الضفادع " .. وفي نهاية الليلة عقب عودته لمنزله دلف إلى الحمام وأغمض عيناه واشتهى الفتاة التي طالما حلم بالزواج منها أكثر من مرة .. هذا حقيقي رغم صوته العميق ألا أن وجه كان يقول الكثير ، ذات يوما القي بقصه كتبها صديقه في نيران مدفئته الشعبية، رأى أنها تلميح صريح عن حياتهما. 
 
ظل يقرأ كتابنا العجوز كثيرا حتى وقع في نوبة ضحك هستيري .. قفز ملقيا قطته في الهواء وراح يلتقطها في سعادة قائلا :" قد يشتكي الرجل من نفسه ومن مواقفه ومن دموعه وجنونه وحيرته. . يذهب إلى الجنوب أعواما ويشعر أن حياته بكل ما فيها فارغة، كمن يصعب الأمر فيقول ترهات مثلا كالشعراء العرب .. عزيزتي أنا ابن هذه المدينة لذلك سأقول لك رأيت الموت يحتسى القهوة مع القلق ويعلنان صداقتهما ضدي وضد من أحب .. أن جميع الأشياء في حرب معي ، سأصاحب جنوني وأسلمه روحي، سأجعله حصني الوحيد .. وكلما يدعو تفكير الرجل العجوز بالعودة إلى وعيه يقاطعه صديقك : "جنوني وعيي ونعمتي .. هو الذي سيقودني إلى دخول قبري راضيا" .. قبل أن يلقي البوليس القبض على المهربين في حانة المدينة.. ها أنا بت مثلهم سأستمر في الكتابة تنفيذا للكيفية التي حصروا فيها الفن حتى أصبح ملك التشبيهات والأخيلة، حينها سأحب الحرب وأدعو لها ولتذهب معاهدة السلام إلى الجحيم، أهذا ما يريدونه ! حسنا سأصف كل اللقطاء والأشرار بالكلاب والحيوانات كأجدادي العرب ! ." ..
 
 
اخبر قطته بأنه لم يحب يوما تجار المخدرات واصفا إياهم بالحقراء والأوغاد الذين كنوا كل الكراهية للشعير، كون قانون المدينة يحرم الشعير .. همس في أذنيها بصوت هادئ: "رغم ذلك لن أتمنى أن أكون قطة مثلك.... وأنت أيضا ربما لا تتمنين أن تكوني بشرية، لذلك نحن متعادلان.".. كانت ليلة جيدة قضتها القطة مع ذلك الكاتب المجنون الذي عرفته مؤخرا ، وبعد تلك الليلة، عندما يعود إلى حالة التوحد تشرع في حمل إحدى قصصه بأسنانها وتعطيها له فيقرأ لها بشكل عشوائي ويخرج حتى يشفى ويخرج من حالته .. هي لم تدرك أنه يقرأ لنفسه أولا، فهي قطة مغفلة كباقي القطط، لكنها تعلم أنه بشري لذلك هو مغفل أيضا، أنها نظرة الآخر وليس في الأمر أي إثم .. في آخر ليلة جمعته بصديقه الذي قتل منذ أيام في حادثة سير سببها سائق سكير، قال له: "لا يريح الإنسان إلا كلماته حتى وإن كانت السبب في تدميره .. أنت صديق قديم وأنا أحبك.. أنت عازب وعجوز مثلي كنت ترى الفقر صديقك، لذلك رفضت أي مساعدة مالية مني وقلت على الإنسان أن يحترم أصدقاءه مهما كلفه الأمر .. يا صديق الطفولة والشباب والشيخوخة آنت لا تحب الفقر، لو كنت تحبه لكنت أخبرتني بذلك قبل أن تعرفني الشهرة ويحبني المال، انه الاختباء خلف الفقر وعزة الإنسان وكرامته يا صديقي .. الكتابة جعلت من صديقك ميسور الحال فقط لأنه لم يكتب من أجل المال مثل كتاب جيله، فحاول الإصلاحيين استغلالي.. من أنا لأدينهم .. فقط دعني استغل عبارتك الجميع مرضى بالفعل أيها الوغد .. ولا تنسى انك جامع القمامة الأشهر في المدينة .. الجميع يحبك على رأسهم أنا يا صديقي ... اها دعني أخبرك عندما تغتسل لا تندثر بملاءة سريرك تخلى عن هذه العادة القبيحة تجعلك مريعا كمن اغتسل غسلة الموتى ! .
 
 
بعد مضي أسبوع على مصرع جامع القمامة، شرع الكاتب في كتابة قصة تناولت بعض المحطات البارزة في حياة صديقه بكيفية غير مباشرة وكشف في نهايتها على لسان صديق البطل انه يحلم بغمد سيف بقلب سائق سكير قتل صديقه قائلا :" لا غفران لذلك السكير الحقير الذي قتل صديقي العجوز الذي لم يحلم سوى أن يعيش بسيطا وأن يقسط في حديثه" .. بعد ذلك كتب قصة ثانية حول صديقنا جامع القمامة أيضا حملت عنوان "يصبح الإنسان مسكينا جدا عندما يموت في حادثة" وأخرى بعنوان "يصبح الإنسان قويا جدا عندما يموت في حادثة"، الأمر الذي جعل جمهورا كبيرا من القراء يستاءون منه ويهاجمونه، فقال أحدهم مازحا لمذيع الشارع : “المجنون بحاجة إلى زوجة تجعله ينسى صديقه... فالنساء دائما ما يجعلن الرجال يتأخرون على سهرتهم في المقهى بصحبة أصدقاءهم، وإحدى القارئات قالت: “أصبح صديقه مادة دسمة له عندما قتله سائق سكير ... لقد بات كاتب القصص مفلسا." 
 
 
 
أشعل شمعة الآن شمعة ووضعها بجوار أحد بوسترات قصصه وأخذ يرقص رقصا غريبا وقطته فوق كتفه.. راح يصيح:" أنا عجوز مهم! في هذه المدينة لا يوجد بائع جرائد لا يعرفني... أنا ملك القصص الحزينة.. كثيرون باتوا يملون من قصصي وكثيرون مازالوا يعشقونني... ولو كرهني واحتقرني كوكب الأرض، صديقي لم يحتقرني ولم يكرهني أبدا .. توقف عن الرقص وأمسك قطته ووضعها على الأريكة، ثم قال بصوت خافت: "أنا أواسي نفسي بنفسي".. أطفأ الهواء الذي خلفته رقصته الشمعة، أضاء المصباح الكهربائي وذهب إلى الثلاجة وأخرج شريحة كبيرة من اللحم المجمد وقال لقطته: “سأعد لنا عشاء شهيا مع مشروب الفواكه الممزوج بالنبيذ".. ذهب إلى المطبخ وظل يردد:"أنا أواسي نفسي بنفسي"، وقطته تنظر إليه وتتابعه بعينيها حتى اختفى عنها تماما، فراحت تحتضن وسادة الأريكة بسعادة .. من الجميل أن تنتهي ليلة مجنونة مضطربة بوجبة شهية، قطة مثل هذه تعيش مع هذا الكاتب وأفكاره وجنونه وعذاباته قد تتمنى أن تتكلم لتقول له: "رغم كل شيء، أنا سعيدة بالمكوث معك... في الماضي، كنت قطة شارع أحصل على الركلات أكثر من بقايا الأكل، وأطفال اليوم ليسوا أطفالا. إنهم شياطين يستمتعون عندما يكبلونني بالحبال ويقومون بسحلي حتى نصل إلى مكان تسيطر عليه الشمس، ثم يوجهون عدساتهم المكبرة نحو جسدي، فيتمركز ضوء الشمس ويحرقني مما يجعلني أحبس أنفاسي من الألم ومن الوجود في ذلك العالم المريض.. بينما أنت وجدتني في ليلة من أتعس أيامي، عندما اهتاج على جسدي المحترق ذكور القطط المتوحشون وقاموا باغتصابي عدة مرات.. كانوا يقفزون فوقي بمخالبهم بلا رحمة في البداية كنت سعيدة تطور الأمر هو من جاء بالكارثة ، مما تسبب في تساقط لحمي بكل سهولة بسبب حروق العدسات... كان من الممكن أن أتعرض في تلك الليلة للموت، شعرت بألم في المعدة وضيق في التنفس وتورم في كل جسدي وزهدت كل شيء لدرجة أنني لم أعد قادرة على تخيل يوم جميل وأنا ألعب بخيوط الحياكة كباقي القطط، إن الذي يجمع قطط الشوارع وقطط الارستقراطيين هو اللعب بالخيوط. 
 
 
وتتابع بالقول مثلا :" حتى طيور السماء هبطت تنقر جسدي كي تطعم صغارها... لقد باغتتني الحياة في ذلك اليوم بجميع شرورها... وأنت أيها الرجل الطيب وجدتني وأخذتني إلى بيتك كما يفعل المسيح دائما، وقمت باستدعاء الطبيب، ذلك الطبيب الذي ركلني يوما ما هو وزوجته الحقيرة، تلك المرأة كالحة الوجه فاقدة الأنوثة، وأنا أنقب في سلة مهملاتهم أمام منزلهم عن طعام لسد الشيء الحقير المسمى بالجوع... أنت جعلته يطيب جسدي ويبتسم في وجهي، داعبني بصوت يكسوه الهدوء مثلما يفعل مع زوجته عندما يريد جرها إلى الفراش، وبعد وجبة من الجنس المزيف يهديها قطعة من الذهب، أنت تعلم كم هو مقدس أن تجعل أحد الحقراء يبتسم في وجه كائن أرضي تجرع منهم الذل ذات يوم و تذوق من الألم الكثير كما يتذوق الموت من البشر... أنت أيها الحقير جعلتني مشهورة وأصبحت حديث المدينة، قطة مثلي تدرك قيمة جنون منازل المختلين، الحيوانات لا تستطيع القراءة لكنها تشعر، فتلقي بذراعيها حول عنقك وتطلب لك السلامة، وتزيح عنك صناديق القمامة عندما تتحد شاشات الميديا عنك، كما تلعق الدماء التي تجمدت على وجهك عندما يجرحك حقير ما بسلاحه الأبيض، وتنام سعيدة على راحة يديك، أنت أيها الحقير من أجمل ما رأيت!.
 
تمت