أمينة خيرى
ماذا يفعل المسافر قبل السفر إلى بلد يزوره للمرة الأولى فى الألفية الثالثة؟ «يجوجل» البلد المراد زيارته، ويقرأ أو على الأقل يتجول فيما يجد من مقالات وكتابات بحثاً عن نصائح من سبقوه، لا سيما إن كان البلد المراد زيارته ينتمى لثقافة مغايرة لثقافته وعاداته وتقاليده. ومن باب حب الاستطلاع فعلت ما يفعله المسافر المتجه إلى مصر، فوجدت موضوعاً صحفياً فى موقع إخبارى سياحى ثرى بمحتواه اسمه «ترافيل دايلى نيوز» أو «أخبار السفر اليومية»، الموضوع عنوانه «كيف يبدو السفر لمصر بالنسبة لامرأة مسافرة وحدها؟». العنوان بالطبع أوقع قلبى فى قدمى!! فأول ما يتبادر إلى الذهن هو ما نعرفه جميعاً من تعامل الشارع مع الأنثى الأجنبية (وغير الأجنبية) لا سيما التى تكون وحدها، أى بدون رجل يرفع راية «هذه المرأة غير متاحة»!

جاءت البداية صادمة لمن عاش فى مصر وقت ازدهار السياحة حتى أحداث يناير 2011. صحيح أن الكائنات الأنثوية لطالما كان ينظر إليها البعض فى الشارع باعتبارها مادة خصبة لدرجات التحرش المختلفة، إلا أن ما تيسر من ثقافة التعامل مع السياح والحفاظ على أكل العيش كانا يحجمان هذه التوجهات الذكورية إلى حد ما. فى مقدمة الموضوع أشارت الكاتبة بأسلوب بالغ الذكاء إلى أن العالم ملىء بالنساء المسافرات اللاتى لا يخفن ومستعدات لاغتنام الفرصة وخوض مغامرات حقيقية، لكن حين يتعلق الأمر بمصر، فإن البعض منهن ينتابه القلق لأسباب من شأنها أن تثير القلق فى أى امرأة تسافر وحدها. فهمت بالطبع ما ستذكره الكاتبة، الذى لن يخرج عن إطار آفتنا الكبرى فى عصر التدين الفطرى، ألا وهى التحرش بالكائنات الأنثوية بغض النظر عن السن أو اللون أو الجنسية أو الملبس، إنه التحرش فى المطلق الذى أصبح مفهوماً راسخاً إلى حد كبير فى الثقافة المستحدثة، التى تستبيح الأنثى وتبرر فعلة الذكر باعتباره مجموعة من الهرمونات المتفجرة غير القابلة للترويض أو التهذيب. ويبدو أن الكاتبة فى تجربتها فى السفر إلى مصر وازنت بين عاملين لا ثالث لهما: إما الانغماس فى ما يسببه التحرش والتلصص بالنظرات وخرق الخصوصية واعتبار اللمس وفرض الوجود حقوقاً مكتسبة، أو التقليل من شأن هذه «الثقافة» بغية الاستمتاع بما تحويه مصر من عوامل جذب وصفتها بـ«المذهلة» والفرص العديدة للمغامرة والتمتع بإرثها الثقافى، لا سيما أنها كانت «وجهة السفر المثلى». تنفست الصعداء بعض الشىء لانحياز الكاتبة لرغبتها فى الاستمتاع بما تزخر به مصر من ثروات ثقافية ومواقع رائعة - رغم طبقات عدة من الغبار السلوكى والصدأ الأخلاقى الذى حط علينا تدريجياً منذ أواخر السبعينات واشتدت وطأته فى سنوات الميوعة القانونية وخروج جيل كامل ممن حُرموا من التعليم المدنى والتنشئة السلوكية القائمة على الصح والعيب، وليس الحلال والحرام فقط. وكم كانت سعادتى بالغة والكاتبة تدق على أوتار «ضيافة» المصريين الدافئة والمرحبة فى كل مكان، لكنها عادت وبذكاء ولباقة شديدين وأشارت إلى أن أغلب المصريين لا يمكنهم هضم فكرة أن تسافر امرأة وحدها!! حزنت كثيراً لأن هذه الفكرة ترسخت لدى الكاتبة بناء على ردود الفعل «الصديقة» التى وجدتها فى الشارع، لا سيما أن آلاف المصريات قبل عقود طويلة كن يسافرن وحدهن للدراسة والعمل وحتى للسياحة، وذلك قبل هجمة المتأسلمين على ثقافتنا وحياتنا بتفسيرات مشوهة. واستطردت الكاتبة ممسكة بعصا الإشادة مع التحذير من المنتصف، قائلة إن عدم استساغة المصريين لسفر المرأة دون «رجل» يجعلها محط الكثير من الأنظار فى الشارع، «وبعض هذه الأنظار يكون غير مرحب به، وإن كان هذا لا يمنع أن الشعب المصرى مضياف للغاية». وتعاود الكاتبة الحفاظ على مبدأ إمساك العصا من المنتصف، فتشير إلى أن المسافرة وحدها ستجد نفسها ضيفة فى الكثير من الصور التى يقبل المصريون على التقاطها معها، لكنها تعود وتحذر من أنه فى حال شعرت المسافرة بعدم الراحة لطلب التصوير «سيلفى» مع أحدهم، فعليها أن تعتذر بلطف. ومفهوم بالطبع سبب عدم الشعور بالراحة حيث «التقارب الجسدى» وادعاء الهبل المرتكز على أسطورة أن السائحات الأجنبيات لا يمانعن فى إقامة أى نوع من أى علاقة مع الذكور المصريين. وتدلى الكاتبة بعدد من النصائح للمسافرات أغلبها يدور حول ارتداء الملابس التى تغطى الجسم وتحترم الثقافة المصرية المحافظة. ومع الثقافة المصرية المحافظة، يأتى التحذير من التحرشات بالنظر والتعليقات وغيرها المنتشرة فى الشوارع. وتنبه الكاتبة إلى ضرورة توخى الحذر قبل الدخول فى محادثة ولو عابرة أو سريعة مع ذكور مصريين، لأن أى كلمات متبادلة قد يتم فهمها على أنها دعوة مباشرة للغزل وربما ما هو أكثر.

ما يهم فى مثل هذه المقالات هو الاطلاع على صورتنا فى أذهان الآخرين لعلنا نلتفت إلى إزالة غبار هنا، أو تنظيف صدأ هناك، أو تطهير أدمغة هنا وهناك، لا لتحسين الصورة فقط، ولكن حفاظاً على أكل عيشنا الذى ضربه نيزك مزدوج أوله تدين مغلوط وآخره ثقافة مدمرة.
نقلا عن الوطن