كتب :.دعبدالخالق حسين

ليس هناك مواطن عاقل، ومخلص لوطنه، يقبل بوجود قوات عسكرية أجنبية في بلاده، ما لم تكن هناك ضرورة ملحة تستوجب ذلك، وفق مقولة (الضرورات تبيح المحظورات). وضرورة وجود القوات الأجنبية في العراق بقيادة الولايات المتحد الأمريكية هي احتلال (داعش= ISIS) للمحافظات الغربية عام 2014. حيث جاءت تلك القوات بقيادة أمريكا، بطلب من الحكومة العراقية لمساعد القوات المسلحة العراقية (الجيش والحشد الشعبي والبيشمركة)، لطرد عصابات التوحش. وتحقق النصر عام 2017، بثمن باهظ في الأرواح والممتلكات. و كان من مصلحة العراق إبقاء هذه القوات لتدريب القوات العراقية ومساعدتها عند الحاجة، حيث مازال الوضع الأمني العراقي هشاً، إذ هناك معلومات استخباراتية أكيدة تفيد عن وجود الألوف من الخلايا الداعشية النائمة تنتظر الفرصة الملائمة لارتكاب جرائمها بحق الشعب والوطن.

ولكن بسبب تعقيدات الوضع العراقي، والصراع المحتدم بين أمريكا وإيران (كلتاهما صديقتان للعراق وساعدتا في دحر الإرهاب)، قامت أمريكا، وبأمر من رئيسها دونالد ترامب، بارتكاب جريمة  قتل الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، وقتل نائب رئيس الحشد الشعبي العراقي "أبو مهدي المهندس"، وستة آخرين من رفاقهما، وذلك في قصف صاروخي استهدف سيارة كان يستقلها سليماني والمهندس على طريق مطار بغداد الدولي في يوم الجمعة (03/1/2020).

هذه العملية تعتبر جريمة شنيعة حسب جميع المعايير، ومخالفة للقوانين الدولية، وتجاوز على سيادة الدولة العراقية المفترض أنها ترتبط مع أمريكا بعلاقة صداقة على وفق اتفاقية الإطار الاستراتيجي للتعاون بين العراق والولايات المتحدة الامريكية (SOFA) لعام 2011. هذه الجريمة تعتبر قرصنة، وتطبيق لشريعة الغاب، وقد أدانتها أغلب دول العالم، وأحزاب سياسية، بما فيها قيادة الحزب الديمقراطي الأمريكي المعارض، ومختلف وسائل الإعلام، والشخصيات الدينية والثقافية في مختلف أنحاء العالم، واعتبروها جريمة تهدد السلام العالمي، وأنها استفزاز غير مبرر لإشعال حروب مدمرة في منطقة الشرق الأوسط الملتهبة أصلاً.

أما في العراق فكانت ردود الأفعال متباينة، إذ الملاحظ أن الجريمة هذه أثارت غضب قسم من الشعب وخاصة المكون الشيعي، بينما هناك جماعات تظاهروا ابتهاجاً بالجريمة مما يعكس عمق الإنقسام في هذا الشعب.
والجدير بالذكر فيما يخص الحشد الشعبي، أن كتب لي صديق إعلامي مطلع، وهو بالمناسبة، شيعي علماني مقيم في بغداد، أثق به  وبمواقفه الوطنية، قائلاً: (أن هناك انقسام حتى في داخل المكون الشيعي حول الحشد الشعبي، لأنه تمت مصادرته بالكامل لمصلحة إيران التي ستجعل منه الدولة التي تتحكم بدولة العراق كما هو حال الحرس الثوري في إيران، وقبيلة الحوثيين التي حولتها ايران من قبيلة تسكن الجبال الى قوة سيطرت على عموم اليمن، وكما حولت حزب الله اللبناني من حزب محدود ومتصارع بشكل دائم مع منظمة شيعة لبنان "أمل"، الى قوة تتحكم بمجمل لبنان ولمصلحة إيران. ان قيادات الحشد الآن من اتباع إيران بشكل مطلق، وسيكون واجب الحشد هو الدفاع عن ايران والتحكم بالعراق لمصلحة ايران دون مصلحة العراق... لننتظر ونرى. ان ما يحصل في العراق الآن من احتجاجات وتظاهرات هو للتخلص من ايران وأتباعها في العراق). انتهى

وإزاء هذا الغضب الشعبي كما لوحظ من ضخامة حجم مواكب تشييع الشهداء في بغداد، قدم رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة، السيد عادل عبدالمهدي رسالة إلى أعضاء البرلمان العراقي، مطالباً بإنهاء الوجود العسكري الأجنبي في العراق(1). واستجاب البرلمان بتصويته بإجماع الحاضرين على قرار يطالب بإلغاء طلب العراق المساعدة الأمنية من التحالف الدولي، بقيادة الولايات المتحدة، الذي يقاتل تنظيم الدولة الإسلامية "بسبب انتهاء العمليات العسكرية في العراق وتحقيق النصر".(2)

وتأكيداً للإنقسام العراقي، كما شوهد إثناء جلسة البرلمان لمناقشة الأزمة والتصويت، فقد تغيبت الكتل السنية والكردية النيابية على أمل إفشال الجلسة بعدم إكتمال النصاب. ولكن النصاب قد اكتمل بحضور نواب الكتل الشيعية والأقليات الأخرى (192 نائباً)، لذلك فأغلب المصوتين على القرار هم من الكتل الشيعية. وهذا يؤكد عمق وخطورة الانقسام في الشعب العراقي وقياداته السياسية. والجدير بالذكر أن قرار البرلمان هذا غير ملزم على الحكومة بتنفيذه، إلا إن رئيس حكومة تصريف الأعمال هو الذي قدم الطلب، ولكن تنفيذه يعتمد على الحكومة القادمة، لذا فمن الممكن أن يكون الغرض من هذا القرار هو لامتصاص الغضب الشعبي.

أعتقد أن قراراً خطيراً كإخراج القوات الأجنبية التي ساعدت القوات العراقية على دحر الإرهاب، يجب أن لا يؤخذ بدوافع عاطفية مشبوبة، وتحت ظروف انفعالات اللحظة، بل في ظروف التهدئة والتأني، والتفكير العقلاني، وبعد مناقشات عميقة وهادئة، لأن هكذا قرار يترتب عليه مصير الشعب، وله عواقب وخيمة جداً إذا ما جاء كردود أفعال انعكاسية (reflex actions)، وليس نتيجة التفكير المنطقي العقلاني العميق.
ومن جهة أخرى أنه لمحزن حقاً أن تتصارع دولتان، (إيران وأمريكا) فيما بينهما، وكلتاهما تحاربان نفس الإرهاب. فالمستفيد في هذه الحالة هو تنظيم داعش. إذ كما قال باتريك كوكبيرن في صحيفة الإنديبندنت اللندنية: (أن إيران وأمريكا رغم عدائهما المعلن، إلا إنهما قد تعاونتا معاً خلال الثلاثين سنة الماضية في مجال محاربة الإرهاب... لكن التاريخ الحقيقي للعلاقات بين الولايات المتحدة وإيران منذ غزو صدام حسين للكويت عام 1990 كان في الواقع مزيجًا غريبًا من التنافس والتعاون. وهذا ليس واضحًا لأن التعاون كان خفيًا إلى حد كبير، بينما التنافس واضحاً. فقد اعتاد العراقيون الذين كان قادتهم يتأرجحون ويتوازنون بعصبية بين واشنطن وطهران، أن يقولوا لهم: "إنهم يلوِّحون بقبضاتهم على الطاولة ويتصافحون تحتها".) ويضيف: (فالقتال بين إيران والولايات المتحدة على الأراضي العراقية قد يؤدي إلى إطلاق الفوضى العارمة في البلاد، والمستفيد هو داعش.)(3)

عواقب إخراج القوات الأمريكية من العراق
العواقب وخيمة وكارثية وكثيرة، خاصة خلال فترة إدارة الرئيس دونالد ترامب، والمتوقع أن يفوز في الانتخابات الرئاسية القادمة هذا العام، ومن هذه العواقب ما يلي:
أولاً، أثبتت الأحداث، وخاصة الأخيرة التي سميت بـ(وثبة تشرين)، أن للاستخبارات الأمريكية وحلفائها في المنطقة (السعودية والإمارات وإسرائيل)، نفوذ كبير في العراق، وتأثير عميق على قطاع واسع من الجماهير من كل المكونات بلا استثناء.
ثانياً، ففي عام 2011 عندما أصر رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي على إخراج القوات الأمريكية، استجابت إدارة أوباما بدون معارضة، ولكن النتيجة أن احتلت (داعش) المناطق السنية بدون مقاومة تذكر عام 2014، مما أضطر بديل المالكي، الدكتور حيدر العبادي، أن يطلب من أمريكا إعادة قواتها لدعم القوات العراقية في حربها على داعش.
ثالثاً،  ونتيجة لأولاً، وثانياً، فالمستفيد الأول والأكبر من إخراج القوات الأمريكية من العراق هو داعش، وبالدرجة الثانية إيران، والخاسر الوحيد هو الشعب العراقي، وبالأخص الشيعة، لأن في هذه الحالة يتحول الصراع من حرب بين أمريكا وداعش إلى حرب بين أمريكا والشيعة، وبإمكان أمريكا بما تملك من إعلام مهيمن على الرأي العام العالمي، إلصاق صفة الإرهاب بالشيعة كما ألصقتها بإيران وشيطنتها.

رابعاً، وكنتيجة لما سبق، فمن الممكن هذه المرة أن تقوم داعش بنفس العملية، وتحتل المناطق السنية وتحت أي اسم آخر، خاصة وأن المناطق الشيعية هي الأخرى منقسمة على نفسها في الولاء بين أمريكا وإيران. كذلك يمكن أن تعطي أمريكا الضوء الأخضر لحكومة كردستان بالاستقلال وتساعدها على ضم جميع المناطق المتنازع عليها. ومنها تبدأ حروب استنزاف الطاقات البشرية والمادية إلى ما لا نهاية.

خامساً، قال ترامب أنه لن يسحب قواته من العراق ما لم يدفع العراق تكاليف القاعدة الجوية التي بنتها أمريكا، والتي كلفت مليارات الدولارات.,.. ولو هذا الشرط قابل للمناقشة، إذ هناك مادة ضمن الاتفاقية بين العراق وأمريكا أن ملكية القاعدة الجوية تعود إلى العراق.

سادساً، هدد ترامب العراق بفرض عقوبات اقتصادية صارمة أشد مما فُرِض على إيران فيما إذا أصرت الحكومة العراقية على إخراج القوات الأمريكية. قد يجادل البعض أن العراق لم يشن حرباً على أحد، ولم يقم بمخالفة القوانين الدولية، لذلك فترامب لا يستطيع فرض عقوبات اقتصادية على العراق كما حصل في عهد صدام حسين بعد غزوه للكويت. الجواب على هذا الاعتراض، أن الإدارة الأمريكية لا تحتاج إلى موافقة الأمم المتحدة، أو المجلس الأمن الدولي، بل يمكن أن تتخذه من جانبها الأحادي فقط كما حصل مع إيران، وكوبا وفنزويلا، وغيرها وهي في أسوأ حال إقتصادياً.

وبناءً على كل ما تقدم، يجب أن نسأل أنفسنا، خاصة والعراق يعاني من تمزق وتشرذم في وحدته الوطنية، وضعف حكومته، وهشاشة وضعه الأمني، حيث يواجه التهديد الإرهابي الداعشي البعثي، وتكالب دول الجوار عليه، هل من مصلحة العراق طرد القوات الأجنبية وتحويل دولة عظمى من صديقة إلى عدوة؟
ألجواب كلا، وألف كلا، لأن العراق وبوضعه الحالي المزري إلى حد الكارثة، هو الأكثر حاجة إلى وجود القوات الأمريكية والأجنبية الأخرى من حاجة أمريكا لهذا التواجد. وعليه يجب على العقلاء من السياسيين العراقيين أن يفكروا جيداً، و أن لا ينفذوا قرار البرلمان لأنه صدر من نواب كتل مكون واحد وهو المكون الشيعي فقط، وبعجالة، وتحت ضغوط إنفعالات اللحظة. كذلك فالقرار غير ملزم. لذلك فالعراق بأمس الحاجة إلى دعم أمريكا وليس معاداتها. فإخراج القوات الأجنبية، وبالأخص الأمريكية، سيكون وبالاً على الشعب العراقي، لا يقل سوءً عما حصل بعد غزو صدام للكويت.