أمينة خيرى
التحرش ليس جديداً على مجتمعنا، زمان كانوا يسمونها «معاكسات»، حيث التشبيه بالقمر وأنواع الحلوى إلى آخر القائمة المعروفة للأجيال الأكبر سناً، ومن منا لا يعرف «صفايح الزبدة السايحة» لصاحبها الراحل عبدالفتاح القصرى. ولن ندعى أن «معاكسات» زمان كانت كلها تشبيهات بليغة ومقاربات مسكرة، فقد كان هناك متحرشون فى المواصلات العامة، حيث محاولات اللمس الناجم عن الحرمان أو المرض النفسى أو الانحطاط، لكن كل ما سبق كان مصنفاً باعتباره اعتداء على «بنت الحتة» أو «تطاولاً على الست التى ينبغى الحفاظ عليها» لا سيما إن طلبت المساعدة، منظومة «بص لابسة إيه» و«أكيد هى اللى شجعته» المنحطة لم تكن قد غزت مجتمعنا بعد.

لكن مجتمعنا حين أصبح «متديناً بالفطرة» بمقاييس سبعينات القرن الماضى وانت طالع، ارتاح وانبسط تماماً. فقد جاءت الهبة التديينية القادمة عبر الحدود، والمصحوبة بشعور بالدونية والحاجة إلى النظر لمن يملك المال باعتباره الأقدر والأعظم وصاحب الحق فى فرض الهيمنة الفكرية والسيطرة الثقافية حاملة الكثير لمصر، لم يعد التدين معاملة وسلوكاً وأخلاقاً واحتراماً للنفس والآخرين وتسامحاً وسماحة وبشاشة جنباً إلى جنب مع الطقوس والعبادات، بل أصبح التدين يقاس بعدد مكبرات الصوت، وقدرة المشايخ على الصراخ فيها، مع محتوى يباهى بقدر غير مسبوق من الدعوة إلى العنف الفكرى وكراهية الآخر وزرع مفهوم دينى قوامه الفوقية والمظهرية، والتركيز على تفسيرات تدعو إلى الجهاد بالقتل وسفك الدماء وشج الرؤوس وقطع الرقاب، مع كثير من النكاح وشرعنة الشهوات، ومع شرعنة الشهوات جاءت تفسيرات أسعدت الملايين من الذكور، حيث أقنعتهم بأن الذكر ما هو إلا مجموعة هرمونات قابلة للاشتعال والاستثارة مع أقل هبة نسائية، هذه الشرعنة لا تذكر التربية من بعيد أو قريب، ولا تعرج على قدرة الفرد على التحكم فى شهواته الحيوانية بأى شكل من الأشكال، وبالطبع، جاءت هذه الشرعنة مصحوبة بتحويل أزياء نسائية بعينها إلى «يونيفورم» مقدس من تحيد عنه فقد أعلنت عداءها للدين، ووسيلة للتفرقة بين المؤمنات وغير المؤمنات.

ومضت السنوات والعقود والثقافة الجديدة تسرى سريان السرطان غير القابل للاحتواء أو العلاج، لا سيما أن أولى الأمر كانوا غير راغبين فى العلاج بحكم تواؤمات سياسية واتفاقات لتقاسم المغانم، واليوم وصل بنا الحال إلى ما نحن عليه، المرأة فى الشارع المصرى كائن جنسى يسير على قدمين.

ملاحظة مجريات الشارع كفيلة بالشرح. العادى والطبيعى أن يلتفت الذكر للتدقيق فى مؤخرة النساء والفتيات، بمن فيهن الطفلة، بكثير من الإمعان والتمعن. (ملحوظة على الهامش هنا وهى نجاح الخطاب الدينى المشار إليه أعلاه فى تحويل الطفلة الأنثى إلى مشروع أداة جنسية، ومن يعترض عليه مراجعة فتاوى وآراء مشايخ يحللون نكاح الرضيعة ومفاخذتها وهو ما ينعكس فى ارتداء طفلة لا تتعدى عمرها السنوات الخمس إسدالاً يمسح الأرض معها أثناء سيرها).

ومن الطبيعى والمقبول أن يطلق أحدهم تعليقات فجة عن مقاييس جسد المرأة التى تسير أمامه، ومن الطبيعى أن يصطف الشارع مع هذا الرجل إن تجرأت المرأة واعترضت، فطالما لم يلمسها، فلا غبار عليه، بالإضافة بالطبع لـ«ما يصحش ست تقف تزعق فى الشارع» إلى آخر منظومة النفاق المعروفة. ومن الطبيعى أن يتم اعتبار من ترتدى ملابس لا تطابق مقاييس الأيزو الموضوعة فى سبعينات وثمانينات القرن الماضى «عاهرة» وجب التحرش بها. والسبب الظاهرى هو تلقينها درساً حتى تراعى مشاعر المؤمنين بعد ذلك، والسبب الحقيقى يكون التنفيس عن الكبت والحرمان، مع وجود عامل ثالث مهم ألا وهو التعبير عن بذور كراهية المرأة وتحقيرها.

وأصبح الطبيعى فى مجتمعنا أن مكانة المرأة تقاس بكمية القماش التى ترتديها، فكلما زادت الكمية، بغض النظر عن تصرفاتها أو سلوكها، كانت جديرة بالتبجيل، والعكس صحيح. وأصبح الطبيعى فى مجتمعنا اللجوء إلى المغالطات الذهنية التى أبدع حكماء التديين فى تجذيرها.

وما جرى مع الفتاة فى المنصورة من تحرش جماعى ليس فى حد ذاته الأزمة، فشوارعنا عامرة بجيل جديد حُرم من التعليم الحق والتربية الحقة ونشأ على ثقافة مظهرية تعتبر الأنثى «مرة» أو «ولية» أو «حتة» تستوجب التحرش. لكن الأزمة والكارثة والمصيبة تكمن فى تعليقات البعض من المتدينين الجدد، الذين يدافعون عن البلطجية و«السرسجية» لأنهم مسلوبو الإرادة، الضحايا غير القادرين على التحكم فى تصرفاتهم بسبب إلحاح الهرمونات، وكل ذلك بالطبع سببه ما كانت ترتديه الفتاة.

وأخيراً ولمن يهمه الأمر، محاربة التحرش لن تستوى أو تكتمل دون التعامل الحاسم مع متلازمة الدين والتحرش، وفصل التوأم الملتصق، حيث الخطاب الدينى المتوارث منذ السبعينات والمحقر للمرأة والمبرر والمشجع للتحرش بها، وبين المجتمع الذى ينبغى أن يخضع لحكم واحد لا ثانى له اسمه حكم القانون المدنى.
نقلا عن الوطن