محمد حسين يونس
الثورة التي لا تملك نظرية ثورية للتغير .. تتحول من مواجهة عشوائية للطاغية ..إلي إفراز الأف الطغاة .. في كل مجال .. يتصور كل منهم أنه مبعوث العناية الإلاهية لتقويم المائل .... لقد كان هذا هو الوضع بعد أن طرد الأحرار الملك ..و الملكية .. و أعلنوا الجمهورية .. و جلسوا علي مقود القيادة يوجهون .. أو كما لخص البعض الوضع تخلصنا من ملك .. ليحكمناخمسون ملكا .
 
و من طاغية لنواجه عشرات .. بل مئات الطغاة . ومن درب مستقيم نسير علية لطريق به عشرات الإنحناءات و التغييرات .. التي تمحو بعضها بعضا .لتعود إلي نقطة البداية .
 
يوليو 56 عندما أمم عبد الناصر قناة السويس لم يعد بطلا علي مستوى الوطن فقط بل توسع الإعجاب به ليشمل كامل المنطقة من الخليج للمحيط .. لقد كانوا في حاجة لبطل لرمز و أصبح هو الرمز و العلامة لكل الأمم المضطهدة و المستغلة بواسطة الاستعمار الأوروبي الامريكي .. و لم يعد أمام الغرب لوقف التسونامي القادم من القاهرة ليغطي مستعمراتها إلا أن تطيح بناصر...فلم ينتهي العام إلا و أساطيل فرنسا و بريطانيا تدك بورسعيد
 
ومع ذلك فالمصريين لم يكونوا علي قلب رجل واحد .. لقد تبلبلت الافئدة بين الاعجاب و الفخر بالإنتصارات التي أدت لتحرير البلاد و إسترجاع ثرواتها المنهوبة بالتأميم و التمصير .. و مناطحة الامبراطوريات و كسب محبة و تعاطف شعوب العالم المقهورة .. و بالطبع كان الفن علي رأس المعجبين المشجعين و خصوصا الاغنية و الفيلم السينمائي التي كان دورها هو تأجيج الحماس و الحب
 
و بين الإدانه و الإستنكار لسلوك حضرات المنقلبين (الذى كان يتم تداولة سرا ) غير الثورى و الذى يفتقد للعفة و الطهارة أو حتي الإحترافية لقد كان حجم الفشل في إدارتهم لمرافق و إقتصاد البلاد أكبر من أن يغطى أو يتم إخفاؤه.. فالضباط بعد أن إحتلوا مواقع القيادة أطاحوا بإسم الثورة بكل القوى الفاعلة فنال أساتذة الجامعات ، الصحفيون ،القضاة ، الفنانون ، المديرون .. وغيرهم الكثير من سخفهم و جورهم و ضيق أفقهم و سرعان ما إنعكس هذا علي إنخفاض أداء مؤسسات مثل السكة الحديد و التليفونات و النقل و الكهرباء و المياة و المجارى و البلديات و كان الجاني دائما قرارات غير مهنية من ضابط يديرون بالضبط و الربط
 
المصريون شاهدوا كيف تصرف الثوار .. مع (لملوم ) الإقطاعي الصعيدى الذى تمرد و رفض ترك أرضة للفلاحين .. وعلي ( السنهورى باشا ) عندما تكلم عن الشرعية الدستورية ..و علي (خميس و البقرى ) عندما قادا إضرابا للعمال ..
 
المصريون تابعوا محاكمات القيادات الحزبية و الاخوان المتهمين بمحاولة إغتيال عبد الناصر في المنشية .. وكيف تم الإطاحة بالضباط من الزملاء بما فيهم وصي علي العرش و أول رئيس جمهورية ..فخرست الألسن و هدأ الشارع و تم تدجين الحياة السياسية و النقابية و البرلمانية و تبلبلت الافئدة ..
 
ترى هل جاء هؤلاء الضباط بالخير أم بالقمع
 
عندما حدث العدوان الثلاثي و تنمر الإتحاد السوفيتي بالمعتدين و أمرهم إيزنهاور بالإنسحاب و تعاطفت الشعوب مع بورسعيد ..و إستخدم العرب سلاح النفط حدث بعده أمران حاكمان
 
أحدهما أن الجيش الذى لم يصمد أمام الهجوم الإسرائيلي في سيناء و إنسحب عوض خسارته لكامل عتاده.... بحملة دعائية واسعه غير مسبوقة حولت الهزيمة لنصر .. وجعلت من الهاربين أبطالا ..
 
لقد كانت الحملة قوية لدرجة أن قيادات القوات المسلحة نفسها صدقتها ولم تقف لتتسائل عن أسباب هزيمتها للمرة الثانية رغم الدعم الشعبي و الاموال الطائلة التي إستقطعت من ميزانية التنمية و إستهلكت في شراء السلاح ودفع مرتبات و مميزات العسكريين .
 
الأمر الاخر أن القيادة السياسية بدأت في إيجاد قوى موازية تتوازن مع نفوذ كبار القادة العسكريين المتنامي.. بخلق تنظيم سياسي بضم قوى الشعب العامل .. له نواة قائدة (التنظيم الطليعي ) و أفرع نوعية للشباب و المرأة و العمال و الحرفيين .. وله دستورا خاصا ( الميثاق ) .. و خطط تنموية ( قطاع عام ) منسوخة عن نظم رأسمالية الدولة الهتلرية أوالستالينية ..
 
لقد بدأ دور القوات المسلحة ينحسر أمام المد المدني و لم يعد يسمح لها بالحركة في الشارع إلا من خلال توجيهات محددة من القيادة السياسية مثل ( تصفية الاقطاع ) أو (تشغيل مرفق النقل العام مع إضراب السائقين ) أو (إدارة الإقليم الشمالي ) بعد الوحدة مع سوريا أو وهو الأهم (السيطرة علي إتحاد الكرة و الأندية )..
 
فعبد الناصر بعد 56 .. إنتقل لمرحلة سياسية أخرى (لم تكن داخلية فقط بل أيضا خارجية) .. لبناء دولة الإستقلال ...فإنضم إلي معسكر عدم الإنحياز أو (الحياد الإيجابي ) الذى تكون من شعوب كانت إلي عهد قريب مستعمرات في اسيا و إفريقيا و أمريكا اللاتينية يدافع من خلاله عن حقها في الحرية و الإستقلال و إمتلاك مقدراتها
 
لقد أصبح عبد الناصر بطلا عالميا يقف إلي جوار نهرو و تيتو و نكروما و كاسترو و أصبح ضباط جيش عبد الناصربفضل إنجازاته طواوويس تسعي بيننا تحصل علي كل المزايا و النعم حتي بعد أن فشلت في جميع المهام التي أوكلت للمشير عامر .. فأتلفت أول وحدة عربية مع سوريا.. و تكبدت خسائرغير قليلة في اليمن .. و دمرت الاقتصاد و إستنزفت المدخرات في مغامرات فاشلة .. وإستهلكت الميزانية المقدرة للتنمية .. و تسببت في توقف الخطط الطموحة للتصنيع بسبب نقص السيولة النقدية و عدم توفر قطع الغيار.
 
ثم كانت الهزيمة الثالثة أمام الجار الإسرائيلي في يونيو 67 و تغيرت معها الاهداف القومية لتتواضع و تصبح إزالة آثار العدوان..و ضمان رضا أمريكا وقبول مبادرة روجرز
 
و تغير الوضع للمرة الثالثة من (يونيو 67 حتي أكتوبر 73) .. لقد وعينا كشعب و حكام أن لدينا أزمة .. فالعدو علي ضفاف القناة يسبح جنودة في مياهها .. بنزق دون رادع ..
 
و وصفنا الازمة .. جيشنا إنشغل بمهام غير تدريبية أو قتالية .. و أصبح قادته كالطواويس يتيهون علي أهلهم فخرا و صلفا .. و قيادة سياسية لا تدرى بحجم التراخي و الضعف الذى عليه قواتها .. و شعب منوم يتغذى علي أغاني النصر و أناشيد الحماس
 
و تمت مناقشة لم تتوقف حتي يوم العبور ..إشترك فيها الكبير و الصغير و كللتها إضرابات الشباب في الجامعات التي إتخذت طابعا يساريا إيجابيا يدعوللصمود وإزالة أثار العدوان..
 
و أصبحت لدينا حلولا سياسية .. تتصل بتطوير العلاقة مع المعسكر الامريكي و قبول مبادرة ( روجر ) و في نفس الوقت إدارة معارك الإستنزاف .. و تجربة إستخدام السلاح في معارك جزئية خصوصا ما يتصل بالحد من تفوق طيران العدو ..
 
ثم أعدنا تقييم الموقف عدة مرات لنصل إلي حلول ذكية خاصة بإختراق خط بارليف .. و مقاومة الهجوم المضاد الإسرائيلي
 
و نجحنا في العبور و إحتلال عمق 15 كيلو علي طول الجبهة .. لتبدأ أزمة جديدة .. بين طواويس القيادات العسكرية تؤدى لفقد جانب هام من المكاسب .. و الخضوع الكامل لألاعيب هنرى كسينجر.
 
و هكذا تطورت أحلام و أهداف المجتمع ..بعد أن كانت (( التخلص من الاستعمار البريطاني .. و سيطرة الإقطاع الملكي ..و أعوان الاستعمار .. و التحول بالمجتمع ليصبح قادرا علي منافسة الجار الجديد العدواني .. بإنشاء جيش وطني يدعمه إقتصاد متطور يزودة بإحتياجاته الأساسية ..التي تجعله قادر علي حماية الحدود الشرقية ))لأن يصبح (الحلم) .. ((إزالة آثار العدوان .. و السعي من أجل تأمين رضا أمريكي .. ينتهي بسلام و تطبيع مع الجار الإسرائيلي ))
 
هزيمة 67 كانت كلمة النهاية التي لا يمكن إنكارها لنظام شاده عبد الناصروقيادته السياسية عبر سلسلة من الأجراءات العلوية قامت بها لترسية قواعد مجتمع ما بعد الحصول علي الإستقلال .. مجتمع حمل (شعارات) لم يحققها عن الكفاية و العدل و التنمية عبر الإنتاج و التفرد بالقرار بعيدا عن القوى العظمي المسيطرة
 
لقد فشل النظام بشقية ( السياسي الممثل في الإتحاد الإشتراكي و قوانين التأميم ..و إقتصاد رأسمالية الدولة ..و تحقيق الأحلام المذكورة في الميثاق ) أو العسكرى (الذى تمتع بسلطات غير محدودة إستخدمها عبد الحكيم عامر و عصبته الباغية.. من قادة معسكرات الإعتقال .. و البوليس الحربي في إسقاط مجتمع منهك عتق لتوه من أسر الإستعمار )..
 
حتي أنني في بعض الاحيان تصورت أن القيادة السياسية كانت تضاد القيادة العسكرية و تهدف بالمهام التي تسندها إليها إلي ترويض الوحش الذى خلقته بعد 52
 
نعم لقد كانت توكل إليهم مهام فوق طاقة الرجال لتظهرهم بمظهر العاجز سواء في سوريا أو اليمن أو سيناء .. بل كانت تسرب وتنشر فضائح رموزه و غرقهم في تراهات الدخان الازرق ومغامرات إستيلائهم علي الفنانات و تسخيرهن في أعمال قذرة إبتكرها الشقي صلاح نصر..
 
لقد مرت الفترة منذ 67 حتي 74 و للمصريين فيها جيش حقيقي .. لا يهتم بالامور المدنية بقدر ما يهمه تطوير أداؤه .. و لا تلهيه أمور الكسب و مراكمة الاموال بقدر ما يفخر بإنجزاته علي أرض المعركة .. لقد تغيرت العلاقة لشكلها الصحيح ((وطن له جيش يوجهه لينفذ سياسة أمنه القومي)) لقد تعلم القادة التخطيط .. و إستطاع الجنود و الصف و صغار الضباط التنفيذ .. و لولا .. ضيق أفق ( مشيها ضيق أفق ) السادات .. لتحقق الإنتصار الكامل (( نكمل حديثنا باكر )).