فى نهاية كل عام ميلادى نحتفل مع شعوب العالم على اختلاف جنسياته ودياناته بوداع سنة مضت بحلوها ومرها، وفى ذات الوقت نحتفل أيضا بميلاد عام جديد يدعونا للتفاؤل لأنه يقدم لنا فرصة جديدة فيها نعوض ما فاتنا، أو نستكمل ما بدأناه، أو نبدأ مرحلة جديدة بفكر جديد ورؤيا متجددة، فيه أيضا نحتفل كمسيحيين ومسلمين بميلاد السيد المسيح، وهذه الاحتفالات لا تقتصر فقط على أتباع الأديان الإبراهيمية لكن يحتفل بها العالم كله، فقد صودف أكثر من مرة أن أكون أثناء هذه الأعياد فى بلاد آسيوية لا تؤمن بالله (سنغافورة، الصين، تايلاند، هونج كونج.. إلخ) وفوجئت أنهم يحتفلون بشجرة الميلاد ويزينوها كما يزينها العالم الغربى بل وأفضل لدرجة أنى حملتها معى من هذه البلاد؛ حيث كانت أجمل وأروع بتصميمات مختلفة ومتعددة، لقد أصبح عيد الميلاد عيدا إنسانيا عالميا بل إنه فى أوروبا وأمريكا لم يعد الميلاد ورأس السنة عند الأغلبية عيدا دينيا يحتفلون فيه بميلاد المسيح، لكنه صار عيدا قوميا؛ حيث إن معظم هذه البلدان تحولت إلى العلمانية، لكن بغض النظر عن كل ذلك فإن الميلاد كفكرة وفلسفة ليست فقط حدث وقع فى إطار الزمان والمكان ثم تعاد ذكراه، لكنه يعبر أيضا عن أن الكون فى حركة دائمة ودائبة متكاملة لتكوينه وخروجه للوجود، ولادة وحياة وموت، وهذه الحركة دائمة ومستمرة، وقد وصل بنا علم الفلك أن ندرك أنه عندما تغيب الشمس من الشرق تشرق فى الغرب والعكس، وهذه دائرة الموت والحياة المستمرة فى كل الكائنات الحية، ومصطلح الميلاد لغويا يعبر عن مفهوم إعطاء الحياة، وفى نفس الوقت يعبر عن نهاية الزمان الحالى المؤقت لميلاد الزمان الأبدى، وتتحدث الكتب المقدسة عن نهاية عالمنا هذا وبداية حياة لا يقترب منها مرض أو موت أو نهاية، وليس ذلك فقط بل إن العلماء يؤكدون أنه سيأتى يوم يهزم الإنسان فيه الموت، ويدللون على ذلك بظاهرة زيادة متوسط عمر الإنسان من 20 إلى 30 عاما أيام الحضارات القديمة، إلى أن صار اليوم متوسط عمر الإنسان فى أوروبا وأمريكا وبعض بلدان جنوب شرق آسيا يتجاوز الثمانين والتسعين بل وأكثر.. إلخ، وذلك بسب التقدم فى علاج الأمراض واكتشاف خريطة الجينات.. إلخ وإذا سرنا بهذا الإيقاع سوف يولد جيل لن يموت طبيعيا فمصطلح الميلاد لغويا يعبر عن مفهوم إعطاء الحياة، أو بداية الحياة، وفى نفس الوقت يعبر عن نهاية الزمان المؤقت، وولادة الزمان الأبدى، وهو ما أشارت إليه الكتب المقدسة عن حياة ما بعد الموت حياة بلا موت ولا فناء.

 
وبنظرة مدققة متأملة نرى الميلاد فى الكون كله فى حركة متكاملة لتكوينه وخروجه للوجود، وهذه الحركة دائمة ومستمرة، وهذا يعنى أن عملية الميلاد الدائمة والمتكررة للعالم تعطى مفهوما جديدا لعملية الخلق والحياة، سواء على المستوى الفردى أو الجماعى، ولكى ندرك هذا المفهوم عن الميلاد بوضوح علينا أن نعود للكتب المقدسة التى تحدثنا أن الميلاد هو هبة من الله، وهذا يتضح من التاريخ المقدس الذى يحدثنا عن الأم العاقر والذى يفتح الله رحمها لتلد، فولادة إسحق كان من إبراهيم وسارة وهما فى شيخوختهما، فالله هنا هو واهب الميلاد والحياة. فعلى الرغم من أن الله أعطى آدم وحواء القدرة على إنشاء نسل إلا أن مواصلة التناسل كانت بركة إعطاء الحياة للجنس البشرى ككل. ثم جاء الميلاد العذراوى، ليعبر عن أن الإنسان مهما تقدم وتطور إلا أنه لابد أن يعلم أن الله هو معطى الحياة، فهو أعطى الطين أن يلد حياة ثم أعطى العاقر أن تلد حياة، وأعطى الشيوخ أن يلدوا وأخير أعطى العذراء أن تلد. فالحياة بلا جدال هى أساسا عطية الله وقد أراد الله أن يذكر الإنسان بهذه الحقيقة حتى لا يغتر عليه وأن يتذكر ذلك دائما، فالإنسان ليس بقدرته إعطاء الحياة أو حجبها وعندما نحتفل بعيد ميلاد السيد المسيح من عذراء، فنحن نحتفل بالله الواهب الحياة. لذلك دعى السيد المسيح «كلمة الله» وهذا الفكر (فكر الميلاد) لا يتوقف عند ولادة أفراد لكن أيضا يتجاوزه إلى ولادة أمم وشعوب، فمثلا بعد انتصار الثورة البلشفية فى روسيا 1917 وتكوين الاتحاد السوفيتى لم يتصور أحد أن هذا العملاق الذى يقاسم الولايات المتحدة الأمريكية حكم العالم مدة سبعين عاما، سوف يموت ويصبح أثرا بعيد عين، ففى عام 1989 مات الاتحاد السوفيتى وكان هناك مخاض وولادة لبلدان أوروبا الشرقية فقد تمخضت هذه البلدان كوالدة تتألم، وكان الطفل المولود هو ألمانيا الواحدة بعد الانقسام لغربية وشرقية وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا... إلخ، لقد وصلت الألام إلى حد الموت لينبثق من هذا الموت عالما جديدا مولودا يرعاه الله، وهكذا ولدت روسيا وأوكرانيا ومناطق أخرى من العالم... وهو نفس ما حدث ومازال يحدث فى الوطن العربى فيما أطلق عليه الربيع العربى، لقد خرج الشعب ضد الظلم والديكتاتورية فى مخاض طلبا لولادة جديدة لبلدان تتحرر وتحصل على الديمقراطية والمساواة، وهكذا ولدت تونس التى لم تستقر إلا أخيرا، وولدت مصر الجديدة بعد سقوط حكم الإخوان، لكن مازالت الولادة متعسرة اقتصاديا، وحرية وعدالة ومساواة وتكافؤ فرص. إننا مازلنا فى مرحلة مخاض لاستكمال الولادة، وما نفخر به فى مصر هو أننا نستكمل الولادة بدون عنف ودماء، وها نحن نرى الجزائر تعانى أيضا آلام المخاض، وكذلك لبنان البلد الأرقى فى محيطها، والعراق تتلوى من ألم المخاض ولا نعرف المصير، كذلك اليمن. أما السودان فيسير واثق الخطى يمشى ملكا فقد أنهى الحكم الدينى، وأعطى المرأة الكثير من حقوقها، وصارت نموذجا يحتذى. فى هذه الولادات فى ربيعنا العربى وقفت المؤسسات الدينية مسيحية وإسلامية، سنية وشيعية موقفا سلبيا لكنها اشتركت بعد ذلك فى فرحة الميلاد، ونحن اليوم وبمناسبة أعياد الميلاد نطالب المؤسسات الدينية فى بلادنا أن تقوم بدورها فى الإسهام لولادة مصر جديدة بها ديمقراطية حقيقية، وعدالة ليس عليها أى نوع من الغبار، نرجو أن نلد دولة قادرة على المنافسة العالمية قادرة على التعبير عن ذاتها، ونحن فى حالة مخاض نحتاج لكل الجهود حتى يأتى المولود كاملا غير مشوه الخلقة أو العقل.
 
فى تعليم السيد المسيح لتلاميذه مشجعا ومحفزا لهم عن ضرورة أن يتأملوا خلق نوعية جديدة من البشرية حرة مستقلة أمينة طموحة بها مساواة وعدالة، قدم لهم مثلا من الحياة اليومية يقول «المرأة وهى تلد تحزن لأن ساعتها قد جاءت، لكن متى ولدت الطفل لا تعود تذكر الشدة بسبب الفرح لأنه قد ولد إنسان فى العالم» إنجيل يوحنا 16: 21 فحزن وبكاء التلاميذ (الحواريون) هو الوقت الذى تتوجع فيه المرأة عند الولادة، لحظة انفصال الطفل عن الأم لحظة اختبار موت غير مرئى، لكن الحياة تتفتح فى طفل جاء إلى العالم لكى يحول الألم إلى فرح، إن نتيجة آلام التلاميذ هى ولادة إنسانية جديدة، والدعوة موجهه لنا جميعا أن نتألم لأجل ولادة مصر جديدة تتمتع بصحة جيدة، مصر بديمقراطية حقيقية، مصر حرة، مصر بلا فقر ولا عوز ولا تعصب، مصر المساواة بين الرجل والمرأة، المسيحى والمسلم وكل مواطن يعيش على هذه الأرض. ومن المستحيل أن يحدث ذلك بدون ألم ومعاناة، إنه الثمن الذى يجب أن ندفعه كشعب ذلك إن كنا فعلا جادين فى الحصول على مصر جديدة تولد من المعاناة. وأعتقد وكلى إيمان أن مصر تستحق ذلك منا كلنا بلا جدال.