نقرأ فى سفر الأمثال: «الابنُ الحكيم يَسمَعُ تأديب أبيه، وأمّا الساخرُ فلا يسمع التوبيخ» (أم 1:13)، ويضيف فى مكانٍ آخر: «الابنُ الحكيمُ يَسُرُّ أباه والابن الجاهل غَمٌّ لِأُمِّه» (1:10). لا نستطيع أن ننكر أهمية وضرورة دور الوالدين فى نمو أولادهما أخلاقياً وأدبياً وعلمياً، لأن التربية الصحيحة والصحيّة تبدأ من البيت أولاً، وعندئذٍ تُصاحب الإنسانَ وتلتصق به طوال حياته، ولا سيما إذا عرف الآباء أن يقرنوا أقوالهم بأفعالهم، لأن الأبناء يفضّلون أن يروا المثل الصالح أمام عيونهم عن ترديد النصائح والملاحظات، ثم يأتى بعد ذلك دور المَدْرَسة التى تتابع وتُكمّل تربية الأهل، وهذه التربية تشمل الواجبات نحو الله والآخرين وأنفسنا، ويجب أن تكون بإتقان وأمانة لنصبح صادقين ومخلصين.
 
فالوالدان هما المربّيان الأوّلان اللذان يتركا دمغتهما وبصمتهما فى سلوك أبنائهما حين يصبحون رجالاً، ويجب أن يدرك الأهل بأن البيت هو التُربة التى يمتص منها الأبناء كل عناصر طِباعهم وأخلاقهم، وبالتالى كل تصرفاتهم، لأنه من الصعب أن تقوم المَدْرَسة بتقويم ما هو أصبح معوجّاً وغير صالح من طباع الأبناء، أو إصلاح ما أفسده الجو الأسرى. نحن جميعاً نؤمن ونثق بقدرة الله على كل شىء، ولكن عندما نضع فيه كل ثقتنا، لا يعنى أن نتخلّى عن واجباتنا والتزاماتنا المطلوبة منّا، فالله خلقنا أحراراً ولكن هذا لا ينفى احترامه لدورنا الإنسانى المطلوب منّا فى الحياة والأسرة والمجتمع، الله يعضّدنا ولكن ليس كما يفعل مع باقى الكائنات التى لا تمتلك عقلاً، فهو يساعدنا ويحترمنا كمخلوقات حرّة وفعّالة ونشيطة وتتحلّى بالذكاء وكما يقول الكتاب المقدّس: «الله صَنَعَ الإنسانَ فى البدء وتركه يستشيرُ نَفْسَه، فإن شئِتَ حَفِظتَ الوصايا وأتممت ما يرضيه بأمانة» (يشوع بن سيراخ 15: 14-15).
 
ونجاح هذا الدور فى التربية يأتى باحتضان الأبناء والاستماع إليهم وقبولهم ونتذكّر فى هذا الصدد أن أحد الآباء أتى للمعلّم ليشكو ابنه الكسلان فى الدراسة وكافة واجباته حتى يؤدّبه، لكن المعلّم طلب المكوث مع الابن على انفراد، وبعد ساعات قضاها فى الحوار معه والاستماع له بكل حنانٍ ورفق، قال للأب: «أنا قمت بتأديب ابنك، ومن الآن فصاعد لن يتكاسل أبداً». نتعلّم من هذا المثل أن التأديب بدون حُب وعطف واحتضان الأبناء عقيم وغير مُثمر، وتمرّد الأبناء ليس دائماً نتيجة عدم الرعاية أو قلّة الحياة الرغدة أو ندرة الهدايا والمكافآت، ولكن نُرجع ذلك إلى نقص فى التقرّب منهم والاستماع لهم والعطف الحقيقى عليهم. كل شىء متوفر لهذا الجيل من تكنولوجيا حديثة وإمكانيات سهلة للتواصل عن بُعد، ولكن هناك ندرة فى الحوار بين الآباء والأبناء واحتضانهم حتى يضعوا ثقتهم التامة فيهم. فالتربية الحقيقية هى عطية يجب أن نطلبها من الله لأنها فن صعب، وأحياناً توافر الامتيازات الخارجية المُبَالغ فيها التى تُمنح للأبناء هى علامة على عدم قدرة الوالدين فى بناء جو حقيقى وعميق مع الأبناء، كثيرٌ من الأهلِ يُفَضّلون أن يسعدوا أبناءهم أكثر مما يفهمونهم، كما يُفضّلون أن يشاهدوهم مكتفين ومرتوين من كل شىء أكثر مما يدركون أسئلتهم وعطشهم الداخلى، ويُعبّر داود النبى عن الصورة الحقيقية للوالدين قائلاً: «الربُّ حنّانٌ رحيم وَدُود مُحِب حليم...
 
كرأفة الوالد بأبنائه رأف المولى بأتقيائه» (مز 13،8:102). للأسف، بعض الآباء يتساهل مع أطفالهم فى كل شىء دون أدنى رقابة، ثم يشكون من فساد الأخلاق وانحلال الأجيال الحاضرة، لكن يجب عليهم أن يعلّموا الأطفال معنى البطولة الحقّة، والرجولة والشرف والإنسانية والأخلاق النبيلة.
 
كم من المرارة التى تُصيب بعض الآباء والأمهات بعد قيامهم بواجبهم نحو أبنائهم بكل إخلاص وأمانة وتضحية، وتأتى اللحظة التى سُرِق فيها أبناءهم من بين أيديهم بسبب أحد الأصدقاء الفاسدين الذى غيّر حياتهم وتربيتهم وجعلهم يسلكون طريق الإدمان أو الأخلاق الفاسدة، إذاً، ليست المرارة بالنسبة للآباء إنجاب ابن ذى احتياجات خاصة أو كفيف أو به أى عاهة مستديمة، ولكن الكارثة الحقيقية هى أن يصبح ابنهم ضالاً وفاسداً وأنانياً وعاقاً رافضاً طاعتهم بتاتاً. فالميراث الحقيقى الذى يقدّمه الوالدان لأبنائهما ليست الأراضى والعقارات أو المال، ولكن بلوغهم الحكمة والفطنة فى المثَل الصالح والفضيلة، لأن كل هذه هى ثروات من ذهبٍ وأكاليلٍ وأطواق غالية الثمن يتركونها لأبنائهم. لأن الأمومة والأبوّة الحقيقية هى قبل كل شىء الاهتمام بنفوس الأبناء والسهر على أخلاقهم، وتذكيرهم بوجوب مخافة الله.
 
ونختم بكلمات ﭼورﭺ واشنطن: «النَبت الصالح ينمو بالعناية.... أما الشوك فينمو بالإهمال».
نقلا عن الفجر