بقلم : كمال زاخر 
يمكن أن نحسب العام 1923 عاماً مفصلياً فى تاريخ مصر والعالم، فبينما تشهد مصر إعلان ايقونة الدساتير المصرية، يشهد العالم نهاية وسقط الخلافة العثمانية، وترتبك الحسابات السياسية، هنا وهناك، ينتعش فى مصر حراك التحرر، ويتوجس الملك فؤاد خيفة من تعرض عرشه لمحاولات الإنقلاب عليه جراء سعى ا، فيقرر إنشاء "البوليس السياسى" ضمن أجهزة وزارة الداخلية، " لملاحظة ومراقبة المواطنين الذين يخشى من تصرفاتهم"، وكان قد سبقه الوالى محمد سعيد باشا عام 1857فى انشاء "قلم مخصوص" (ادارة) تختص بـ "ترتيب الحراسات، ويباشر بنفسه إجراءات تفتيش الفنادق والمنازل المعدة لإقامة الأجانب، كما بدا أيضاً واضحاً منذ عصر الخديوي إسماعيل، عندما اختلف مع الأمير فاضل وبعض أمراء العائلة المالكة وخشى على عرشه منهم وبدأ يتجسس عليهم ويتلقى تقارير عنهم"، ويُعد "البوليس السياسى" تطويراً لقلم "المخصوص"، ليصير اسمه "القسم المخصوص" بحسب ما جاء بكتاب "البوليس‏ ‏المصري‏ 1922- 1952" للدكتور عبد الوهاب بكر - ‏مكتبة‏ ‏مدبولي‏-‏ القاهرة‏1988.‏
 
ومع قيام ثورة 23 يوليو 52 يصدر قرار رئيس الوزراء بإلغاء القسم المخصوص وكل أجهزة البوليس السياسى ويكلف زكريا محي الدين بتشكيل الإدارة العامة للمباحث العامة. وفى تطور لاحق ـ 1971 ـ يقرر الرئيس السادات ‏تغيير‏ ‏الاسم‏ ‏من‏ «المباحث‏ ‏العامة»‏ ‏إلى «‏مباحث‏ ‏أمن‏ ‏الدولة»،‏ ‏ثم‏ «‏جهاز‏ ‏أمن‏ ‏الدولة‏».‏ وبعد قيام ثورة 25 يناير2011 وتنحي الرئيس حسني مبارك، أصدر اللواء منصور عيسوي وزير الداخلية في 15 مارس 2011، قراراً بتغيير اسم الجهاز إلى" قطاع الأمن الوطني".
 
كانت التكليفات محددة منذ النشأة "ملاحظة ومراقبة المواطنين الذين يخشى من تصرفاتهم"، ويتزايد النفوذ وتتشعب المهام، وتصبح تقارير الجهاز جواز المرور للتعيينات فى المواقع القيادية والوظائف الحساسة، وبحسب الدكتور بكر "أصبح هناك تقليداً معتمداً في الدولة يقضى بأن قيادات أمن الدولة عندما تنهى عملها بجهاز أمن الدولة تنتقل إلى تولى مناصب سياسية مهمة، كوزراء ومحافظين ورؤساء هيئات ومصالح حكومية".
 
وهو ما تأكد مع مجئ السادات رئيساً، ومعه تنتقل اشكاليات الأقباط من مكتب الرئيس لتصبح ملفاً أمنياً فى حوزة جهاز أمن الدولة، اتساقاً مع توجه الرئيس الجديد، وتحالفاته مع التيار الإسلامى ومغازلة جماعة الإخوان، ووفقاً لما استقر فى الإطالر المهنى لطبيعة هذا الجهاز فإنه مكلف "بملاحظة ومراقبة المواطنين الذين يخشى من تصرفاتهم"، مرة فى مسماه الأول "على الدولة" وأخرى فى مسماه الثانى "على الوطن"، فهل صار الأقباط وفقاً لهذا خطراً يخشى من تصرفاتهم سواء على الدولة أو الوطن؟. لذلك صارت شئونهم مرتهنة برؤية الأمن !!.
 
وهل يفسر هذا تحجيم وجودهم فى الأجهزة السيادية، وكوادر التدريس بالجامعات وانعدامه فى بعضها؟، ومثالنا الأكثر وضوحاً الوجود القبطى فى كل التشكيلات الوزارية المتعاقبة منذ عهد الملك فؤاد، الذى لم يكن يسمح إلا بوزير قبطى واحد، وحين كلف سعد زغلول بتشكيل الوزارة فوجئ بتضمين التشكيل وزيران قبطيان فرفض وكانت حجته أن نسبتهم إلى مجموع الشعب لا يعطيهم الحق إلا فى وزارة واحدة، فكان رد الزعيم الذى أصر على وجود الوزيرين، "يا مولانا عندما نفينا كوفد مصرى لم يتم مراعاة هذه النسبة"، ورضخ الملك لمنطق سعد زغلول. الذى لخص منطق المواطنة، والتى تفرض أن يكون الإختيار مؤسساً على الكفاءة بغير أى انتماءات، وهو ما أكده الدستور.
 
وظل عدد الوزراء الأقباط يتأرجح بين وزير واحد و وزيران، وغالباً تسند اليهم وزارات خدمية، وحين أراد السادات أن يستثمر علم وخبرة الدكتور بطرس غالى عينه وزير دولة للشئون الخارجية، فى لحظات حرجة دقيقة وهو فى طريقه للقدس، وعندما استقال وزير الخارجية وقتها محمد ابراهيم كامل قبل يوم من توقيع اتفاقيات كامب ديفيد، يتم تعيين غالى قائماً بأعمال وزير الخارجية، ويظل فى هذا المنصب حتى عام 1979، ويعين بعدها الدكتور مصطفى خليل وزيراً لخارجية.!!
 
وعندما كان قرار بناء الكنائس مقصوراً على ارادة رئيس الجمهورية كانت الكلمة الفاصلة فى تقرير الأمن المرفوع للرئيس بهذا الشأن، ولم يتغير شئ حين فوض الرئيس المحافظين فى اصدار القرار، بل ولم يتغير حتى بعد صدور قانون بناء الكنائس المعيب. كانت الكلمة السحرية لتبرير رفض الأمن "دواع أمنية".
 
ولعل القارئ يأذن لى أن انقل سطور مما كتبه "الأستاذ" محمد حسنين هيكل متعلقاً بملف الأقباط فى كتابه "عام من الأزمات 2000 ـ 201" والذى صدرت منه اربع طبعات ما بين شهور مايو وديسمبر 2001.
 
تحت عنوان "الدين والنيل" يكتب :
طال ترددى أمام الموضوع الذى أحسست أننى أريد التوقف معه، وليس مع غيره، فى هذا الحديث!
وطال ترددى ـ أيضاً ـ أمام الجهة التى ينبغى توجيه الحديث إليها بظن ـ أو باعتقاد ـ أنها الأولى به من غيرها وأنها المسئولة عنه قبل الجميع.
والسبب الذى طال من أجله ترددى أمام الموضوع فى حد ذاته أن الخوض فيه استُبيحَ أمره ـ رغم جلال خطره ـ لكل ماسك قلم أو حجر أو سيف، ولكل مُطِلِّ على الناس من صفحة جريدة أو سماعة مذياع أو شاشة تلفزيون، ولكل من اعتلى منصة كلام أو منبر وعظ، أو أمسك بحبل ناقوس فى برج كنيسة.
وكانت النتيجة حالة من الفوضى أحاطت بالموضوع وقد حسبت أنها تسد الطرق إليه بالزحام، أو تَصُدُّ عنه بإيثار البعد (عن الزحام)!
وأما السبب الذى طال من أجله ترددى أمام الجهة التى أوجه إليها هذا الحديث ـ وهى رئاسة الدولة ـ فهو الحساسية من تجاوز الحدود :
 
من ناحية فإن لدىَّ ظناً ـ بل واعتقاداً ـ أن موضوع الوحدة الوطنية ، هو وموضوع مياه النيل معاً دون غيرهما وقبل غيرهما، هما اختصاص أصيل لرئاسة الدولة، ومسئولية غير قابلة للقسمة تحت أية دعاوى ـ بما فى ذلك دعوى الفصل بين السلطات، أو دعوى الممارسة الديمقراطية ـ ذلك أن مسألة دينين على أرض وطن واحد، وكذلك مسألة نهر هو المصدر الوحيد للحياة تجئ موارده من خارج الحدود، هما مما لا يجوز فيه التفويض، ولا طول الجدل والتزيد !
 
كلتا المسألتين فى ظنى ـ واعتقادى ـ أهم وأخطر من أى مسألة أخرى، حتى مسألة الحرب والسلام، وحتى مسألة التنمية والتكنولوجيا، ذلك أنه بدون سلامة القاعدة الوطنية ، وبدون حماية مياه النيل والمحافظة عليها، يصبح أى كلام عن الأمن وعن المستقبل سبقاً للأوان بالقفز على الحقائق !
ومن ناحية أخرى فإن داعى الحساسية من تجاوز الحدود ينشأ من أن توجيه الحديث إلى رئاسة الدولة قد يُرد عليه بأن رئاسة الدولة ليست فى حاجة إلى من يلفت نظرها لما هو فى الصميم من اختصاصاتها ومسئوليتها .. وهذا منطقى ومشروع !
 
على أنه فى النهاية كانت دواعى التردد ـ هى نفسها دواعى المجازفة بالإقدام، لأن الأمور لم تعد تحتمل.
 
وفى كل الأحوال، ومهما كانت الاعتبارات، فإننى بعد طول التردد جازفت وتقدمت، ذلك أن الموضوع متصل بمستقبل وطن، ثم أن التوجه بالحديث إلى الجهة المسئولة عنه ـ رئاسة الدولة ـ حالة ضرورة وليس حالة اختيار.
 
وفيما يتصل بالموضوع نفسه واعتباره موصولاً بمستقبل وطن، فليست هناك حاجة إلى اعادة قراءة أو استقراء التاريخ العام، أو حتى تاريخ الأفكار، لكى يتفق الناس جميعاً على مركزية الدين فى حياة مصر بالذات، ذلك أن هذا البلد هام تعلقاً بفكرة الدين حتى قبل أن تتنزل كلمة السماء."انتهى الإفتباس"
 
 
ونختتم هذا الجزء بسطور وردت بمقال للكاتب عبد الله نشر بجريدة الشروق الأحد 6 يناير 2019 بعنوان "احاديث يناير : المواطنة والتمييز"
"هذه أزمة تفرض على كل الناس مواجهتها بنزاهة، لأنها فى هذه اللحظة أكبر من كونها فتنة طائفية.. فى هذه الأزمة بالفعل جانب طائفى له أسبابه التى تأخرنا كثيرا فى علاجها، مثلما تأخرنا فى علاج مشكلة مياه النيل، مع تماثل فى أهمية المشكلتين: واحدة تتعلق بحياة البلد والثانية تتعلق بسلامته، وكلتا المشكلتين دخلتا مرحلة التعقيد، ولا أقول الاستعصاء، بسبب عدم الفهم، أو بسبب قلة العزم."
 
هكذا كتب الأستاذ «محمد حسنين هيكل» فى «الأهرام» (١٠ مايو ٢٠١١) على صفحته الأولى تحت عنوان: "عن الأزمة الطائفية.. وغيرها"، محذرا بكلمات مختصرة من أبعاد الفتنة وعجز الإدارة الانتقالية.
 
ثم وجد نفسه مرة أخرى يطل على نفس الملف فى مراجعة المائتى يوم الأولى من الثورة، عندما بدأ الكلام يدور حول وضع دستور جديد.
"كل ذلك ولا يسأل أحد عن شريك فى الوطن منذ كانت بداية الوطن ولا يمكن لرحلة المستقبل أن تتم بدونه وهو أقباط مصر، وهم بالعدد أكثر من عشرة ملايين، أين هم؟!"
 
"ما هى حقوقهم فى العيش المشترك خصوصا عندما يجىء الدور على وضع دستور، والدساتير كلها إجماع طوعى، وليس أغلبية وأقلية، لأنها كما قلت مواطنة عيش مشترك، لا يقبله طرف إلا بكامل حريته، وبرضاه واختياره"
ثم دخل إلى صلب موضوعه محذرا من ألفاظ تتردد دون فهم لمعانيها ومسئولياتها «مثل أن يقول أحد لهم ولغيرهم: مصر دولة إسلامية، ومن لا يريدها كذلك عليه أن يرحل منها، ومثل أن يتحدث أحد عن خضوع أقلية لأغلبية، ومثل ما يقال عن السماحة، وعن عهد الذمة، ومثل هزل قبول الآخر، إلى غير ذلك مما تكرر والقول غير مسئول، وأهم من ذلك غير مدرك!!".
 
عندما جاء الدور على وضع الدستور بدا أن الإجماع تبدد والمغالبة سادت وقضية المواطنة خارج أى اهتمام حقيقى للذين يصيغون نصوصه.
هكذا تصاعدت النذر، فالدساتير لا تكتب بالغلبة إذا أريد لها أن تكتسب شرعيتها ولا لعبة فى يد من يمسكون بمقاليد السلطة.
كانت الفتنة ولغتها والتحريض عليها من المقدمات الطويلة لـ(٣٠) يونيو (2013).
 
لم يكن ممكنا أن يستقر نظام على فتنة ولا شرعية على تمييز وحرق كنائس.
من أفضل ما ينسب لدستور (2014) ما انطوى عليه من حقوق وحريات عامة غير مسبوقة من بينها حقوق المواطنة.
"المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الاجتماعى، أو الانتماء السياسى أو الجغرافى، أو لأى سبب آخر
الدساتير ليست نصوصا تكتب بقدر ما هى تعبير عن عقد اجتماعى ملزم بين الدولة ومواطنيها.
 
كأى عقد فإن شرعيته تكتسب بالتراضى لا الإكراه، وبقدر ما يحوزه من إجماع وطنى.
فى نفس هذه المادة الدستورية تأكيد على أن التمييز والحض على الكراهية جريمة يعاقب عليها القانون وإلزام للدولة بـ "اتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على جميع أشكال التمييز، وإنشاء مفوضية مستقلة يصدر بها قانون لهذا الغرض".
 
كان ذلك تعبيرا دستوريا عن الأجواء التى سادت مصر بعد (30) يونيو وإزاحة شبح الدولة الدينية، لكنه لم يوضع تحت التنفيذ بلا سبب أو مبرر رغم أهميته القصوى.
 
المفوضية أداة دستورية تؤسس لدولة القانون تمنع وتزجر، تحاسب وتعاقب أى تمييز ضد المواطنين أيا كان نوعه.
إذا ما جاء تشكيلها تعبيرا عن حركة المجتمع بمفكريه ومثقفيه والقوى الفاعلة فيه لا بالصيغ المعتادة التى لا تتجاوز كل ما هو تقليدى ومتكرر فى تشكيل اللجان التى يخفت ذكرها بعد إعلانها، فإنها سوف تكون نقلة كبرى فى ملف المواطنة والتمييز.
 
قضية المواطنة يقاس عليها سلامة المجتمع ومدى قدرته على التماسك الوطنى والتطلع إلى مستقبله بثقة. دولة المواطنة هى نفسها دولة القانون.
عدم إنفاذ القانون يكاد يسمم المجال العام حتى بدت فكرة «يناير» فى الدمج السياسى الطبيعى لا المصطنع للأقباط أحلام راحت وأمنيات تراجعت.
"حرية الاعتقاد مطلقة".. و«حرية ممارسة الشعائر الدينية وإقامة دور العبادة لأصحاب الأديان السماوية حق ينظمه القانون».
 
هذا نص دستورى آخر يؤكد قيم المواطنة لكنه يقصر بمفرده عن تلخيصها، أو الإلمام بجوانبها الأكثر أهمية.
القضية الحقيقية فى البيئة العامة التى تتعرض للتسميم بالفتن المتكررة حتى نالت من رأس الكنيسة الوطنية المصرية البابا «تواضروس الثانى» ومؤسسات الدولة كلها.
بأى نظر حديث فإن البابا لا يتحمل مسئولية ما يجرى خارج الكنيسة من حوادث ومآسٍ، ولا يصح
تحميله مهاما سياسية تتجاوز طبيعته الروحية.
عندما تقصر الدولة عن دمج الأقباط كمواطنين أو إنفاذ القانون فى أية فتنة تنشأ فإن اللجوء إلى الكنيسة أمر محتم، وهذا تطور سلبى يقوض ما حلمت به «يناير» ذات يوم.
 
 
ويبقى أن نتختم هذا الإقتراب بالتنقيب عن مخارج حتى لا يتحول إلى "إغتراب".