وسيم النوستالجي‎

 تتقابل النوستالجيا مع اليوكرونيا في تاريخ نهاية المماليك للإجابة على أحد الأسئلة الغريبة بشأن زوال دولتهم للأبد التي بدأ أول مسمار في نعشها بمعركة مرج دابق وفقد فيها قانصوه الغوري حياته بطريقة غير معقولة لا من حيث سبب خروجه ولا حتى شكل مقتله.

 
كلمة نوستالجيا في معناها هي يونانية الأصل وتعني الحنين إلى الماضي وهو ما تسبب فيه مسلسل ممالك النار بشأن الصراع المملوكي العثماني، أما يوكرونيا فأصلها هي الآخر يوناني وتعني «اللاوقت» وتشير في دلالتها إلى التاريخ البديل، وهو ما ينطبق على نهاية المماليك ليس بشكل الفانتازيا وإنما بشكل إعكاس الحدث عبر جعل بديل آخر لصانع الحدث الأصلي وفق منطق الظروف التاريخية.
 
لماذا لم يحدث العكس ؟ طومان باي في مرج دابق والغوري ينتظر
بمعايير السياسة ومقام الحكم كان من المفترض أن يبقى السلطان قانصوه الغوري في عاصمة دولته بالقاهرة بينما يتحرك طومان باي إلى مرج دابق في الشام بصفته نائب السلطان وابن أخيه والرجل الأول مكرر في جيش المماليك؛ ليواجه جيشًا لا يستهدف القاهرة وإنما يريد الشام، غير أن ما جرى هو العكس إذ خرج الغوري بنفسه بعيدًا عن عاصمة ملكه.
 
سببان دفعا قانصوه الغوري للخروج بنفسه إلى مرج دابق أحدهما متعلق بكرامته والآخر له صلة بمصلحة سياسية وُلِدَت من رحم الفساد في جيشه؛ لكن دفع ثمن خروجه بروحه فصار جسدًا تأكله الجوارح ورأسه غير معلومة القبر، في نهاية دراماتيكية.
الظاهر كرامة
يشير تاريخ بن إياس إلى أن صدام سليم الأول مع الغوري كان واقعًا بعد انتصار العثمانيين على الصفويين، ويمكن استنتاج نتيجة مفادها أن كرامة قانصوه الغوري كانت دافعًا أساسيًا لخروجه إلى مرج دابق بعد رسالة مهينة أرسلها له سليم.
 
كان قانصوه الغوري يبلغ من العمر 75 عامًا لدولة عريقة لها باع طويل في الحرب، بينما سليم الأول أصغر منه بـ  29 عاما شابًا ويترأس جيش إمبراطورية صاعدة؛ وتمكن من استغلال تورط الغوري مع الصفوي فقتل سليم الأول جده علاء الدولة أمير ذي القادر الذي اتهمه بالتحالف مع الصفويين، وكانت إمارة ذي القادر تتبع المماليك، ثم استفز الغوري برسالة قال له فيها «إن كنت رجلاً فلاقني في الميدان»؛ فكانت تلك الجملة عاملاً ظاهريًا لخروج الغوري لتأديب هذا الطفل الأرعن ـ كما كان يراه بحكم السن ـ.
الباطن أسوأ
لم يكن خروج الغوري في طريقه إلى نهاية المماليك من أجل كرامته فقط، وإنما كان له مصلحة سياسية لدعم حكمه، فالغوري أراد أن ينفذ مذبحة شرعية متمثلة في الحرب لفصيلين من جيشه هما «الجلبان» و «القرانيص» وهو على خلاف معهما بسبب سياسة الفساد التي أرساها.
 
يشير الدكتور عبدالرحمن عبدالله الشيخ في كتابه عن بيئة المماليك العسكرية، أن الجلبان في عصر الغوري كانوا مصادر الصرف المالي حيث أنهم مرتزقة يحاربون من أجل المال وبقاءهم في القاهرة سيجعلهم يعيثون فيها فسادًا من أجل العيش، فدفع لهم ليحاربوا.
 
بالتزامن مع اشتراك الجلبان في جيش مرج دابق جاءت مشاركة القرانيص كفصيل ثانٍ بالجيش والذين هم في الأصل مماليك لكنهم يكرهون الغوري لأنه حرمهم من الإقطاعيات لصالح الجلبان فأراد أن لا يبقيهم في القاهرة حتى لا ينقلبوا عليه وليدلل على حبه لهم بأن يرمي الأجلاب في الحرب التي يشرف عليها بنفسه.
ولكي يضمن الغوري صدق الفصيلين وينفي مسألة إرسالهم للموت خرج بنفسه مع جند الخاصية السلطانية المخصصين لحراسته ليحموه من غدر الجلبان والقرانيص، لكنهم ليسوا أهل حرب فلم يشاركوا بالمعركة أما الجلبان والقرانيص فقال عنهم بن زنبل «ألقى الله تعالى فيهم الفتنة فكان كل من الأعيان – أي الرتب العسكرية – يتمني هلاك السلطان الغوري كي يكون هو السلطان فبهذا الموجب هلكوا جميعا ويبعثون على نياتهم»؛ ولم يتحمل الغوري أن يرى هزيمة جيشه التي تعني نهاية المماليك فأغمى عليه ومات كمدًا وقَطع المماليك رأسه حتى لا يأخذها سليم الأول ويطوف بها بينما تُرِك جسده للجوارح.
نقلا عن elmeezan