محمد حسين يونس
أشعر بالخزى و العار .. رغم مرور عشرات القرون .. أننا كنا بهذا الضعف و لم نقاوم المحتلين ... إن ما سجلة عنا .. و وصفونا به.. أمر يدل علي مدى الإنهيار الذى وصل إليه المصرى قبل و بعد الإحتلال البدوى لبلاده ..

المصريون لدى العرب كما ذكر المسعودى ((نساؤها شر نساء الأرض وعندهم خبث ودهاء ومكر ورياء وهى بلد مكسب لا مسكن أهلها شر فكن منهم على حذر )) .

أبو الصلت أيضا قال ((أهل مصر الغالب عليهم اتباع الشهوات والانهماك فى اللذات والاشتغال بالترهات والتصديق بالمحالات وعندهم مكر وخداع ولهم كيد وحيل )) .

كعب الاحبار عندما قسم الأرزاق على دول العالم كان نصيب مصر لديه أن (( الخصب قال أنا لاحق بمصر فقال الذل و أنا معك ... ))
عندما دخل العرب مصر وجدوا أهلها قد سادت بينهم السلبية والريبة والتوجس من الغرباء بعد أن كسرت شوكتهم الف سنة إحتلال ..وعانوا لمئات الأجيال من قهر وظلم الفرس و الإغريق والبطالسة والرومان والبيزنطيين بحيث بدوا للغزاة الجدد بهذه الصفات البشعة التى وصموهم بها ..

و من الطبيعي أن يحرص العرب أيضا على استمرار الأوضاع كما كانت عليه و تأصيل الخضوع مع حرمان سكان مصر من المشاركة فى الحكم أو الدفاع عن بلدهم ليتحولوا بمضى الزمن الى أقنان إن لم يكونوا عبيدا يعملون فى الأرض للوفاء بالخراج والجزية الفردية والجماعية لا فرق فى ذلك بين من أسلم منهم ومن لم يسلم .

لقد كان الخليفة ـ أيا كان ـ يولى مصر لمن يلتزم بتوريد قدر معين من الأموال لخزانته السنية .. الوالى يقسمها بعد ذلك الى مناطق يقطع كل منها الى ملتزم وكان

(( الملتزمون يجتمعون فى جامع عمرو فينادى عليهم منادى صفقات صفقات فى صورة مزادات مدتها أربع سنوات ومن يرسو عليه مزاد الالتزام بتولى تحصيل الخراج من المزارعين فى أقساط ... )).. تغطى نفقاته و أرباحه ونفقات الوالى وجنوده وعماله و أرباحه وتسدد ما التزم به للخليفة بحيث تجمع لأغلبهم أموال طائلة تصرفوا فيها فى غاية السفاهة والجنون .. كما سنرى فى الصفحات التالية .

المصرى كان عليه أن يدفع سواء كانت الأيام أيام رخاء أو كانت أيام قحط أو طاعون أو حروب وفى هذه الأيام كانت المزارع والبيوت والأجران تصبح عرضه لنهب قبائل العرب المتحلقة حولها أما النساء والأطفال فكانوا عرضه للسبى والخطف ليباعوا فى أسواق النخاسة فلا عجب أن يصبح المصريون مع مرور الزمن فى رأى ابن اياس كما ذكر فى باب (( طبائع مصر'> أهل مصر )).. (( أن أمزجتهم و أخلاقهم بعضها شبيها ببعض فان أبدانهم سخيفة سريعة التغيير قليلة الصبر والجلد وكذلك أخلاقهم تغلب عليها الاستمالة والانتقال من شئ الى شئ وعندهم الجبن والقنوط والشح وقلة الصبر على الشدائد وسرعة الخوف من السلطان وعندهم قلة الغيرة على عيالهم وعندهم التحاسد فى بعضهم وكثرة الكذب و ذم الناس ... حتى قيل أن كلابهم أقل جراءة من كلاب البلدان الأخرى و إن الأسد إذا دخلت مصر ذلت )).

أعتقد .. أن أحفادهم من قبائل البدو الذين (لازالوا يتبعون سيرة الأجداد و يتحلقين حول المدن يسرقون و يرهبون) لا زال هذا تصورهم عن سكان الوادى ......و اعتقد أن هذا أيضا رأى سكان شبه جزيرة العرب في المصريين بعد أن تبدلت الأدوار .. و أصبحوا هم من يملكون .. و يهبون .. و نحن نتسول .. و نستدين . و نبيع الصبايا لمسنيهم .

قال بعض المؤرخين (( تولى على مصر اثنان وسبعون أميرا أولهم عمرو بن العاص و آخرهم أبو الفوارس أحمد الإخشيدى ولم ينفرد بخراجها إلا الأمير أحمد بن طولون )) .

الفترة التى تغطيها العبارة السابقة أى منذ حكم العرب حتى حكم الفاطميين حوالى 340 سنة هجرية حكم فيها مصر 72 والى عينهم الخلفاء الراشدين وبنى أمية وبنى عباس بمعدل والى كل 5 سنوات

والحقيقة كما جاءت بكتاب ابن اياس قد تكون أكثر من هذا العدد .. حيث أن بعضهم لم يكمل الشهر والبعض الآخر تولى لأكثر من مرة طبقا للحالة المزاجية للخليفة أو لحجم الأموال التى يرسلها الى المدينة أو دمشق أو بغداد ...

- منهم عبد الله بن أبى السرح الذى زاد بالخراج عما كان يجبى أيام المقوقس فقال عنه عمرو (( ان هذه الزيادة التى أخذها عبد الله بن أبى سرح إنما هى على الجماجم )) ثم يعلق بن اياس ((وكانت هذه أول شدة وقعت لأهل مصر بعد الإسلام )).

- ومنهم محمد بن أبى بكر الذى عينه الخليفة على بعد مقتل عثمان بواسطة العرب المهاجرين لمصر والعرب ساكنى الكوفة (( فثارت عليه الشيعة بسبب ثأر الإمام عثمان وطاردوه فى الفسطاط حتى هرب عند عجوز أخوها يبيع الفجل بالمدينة)) ... (( وعندما قبضوا عليه ضربوا عنقه بالسيف و أدخلوا جثته فى جوف حمار و أحرقوه وعندما عرف أهل عثمان هذا لبست نائلة بنت القرامصة زوجة الإمام عثمان قميص القتيل الملوث بدمه و رقصت فيه بين الملأ)). .

- ومنهم عبد الرحمن بن جحدم القرش الذى ولاه الزبير بعد موت يزيد بن معاوية (( فوثب عليه مروان بن الحكم الأموى فقاتل عبد الرحمن فانهزم وهرب الى الصعيد وملك مروان مصر فولى ابنه عبد العزيز )).

- ومنهم عبد الله بن على بن عبد الله بن عباس الذى ولاه عبد الله السفاح أول خلفاء بنى عباس بعد أن طارد آخر الخلفاء الأمويين عبيد الله بن مروان الحمار عام 133 هـ الذى لجأ الى مصر فهرب الى النوبة طالبا الحماية من ملكها الأسود اللون فرفض حمايته بعد أن لقنه درسا فى أصول الحكم من خلال مترجم قائلا :

(( قل له فكيف أنتم تلوذون الى نبيكم بقرابة و أنتم تشربون ما حرم عليكم من الخمر .. وتلبسون الديباج وهو محرم عليكم و تركبون فى السروج الذهب والفضة وهى محرمة عليكم و لم يفعل نبيكم شيئا من هذا ؟ وبلغنا منك لما وليت مصر كنت تخرج الى الصيد وتكلف أهل القرى .. وكل هذا لأجل كركى تصيده قيمته سبعة أنصاف وهذه بدع اخترعتموها من أنفسكم)) .

((ولما استحللتم ما حرم الله عليكم سلبتم ملككم و أخذ منكم و أوقع الله بكم نقمة لم تبلغ غايتها عنكم و أنا أخاف على نفسى إن أنزلتك عندى فتحل بى تلك النقمة التى حلت بكم .. ولكن أرحل عن أرضى بعد ثلاثة أيام وإلا أخذت ما معك من الأموال وقتلتك)) .

- ومنهم عمر بن مهران الذى ولاه الرشيد على مصر وكان شنيع الخلقة زرى الشكل أحول العينين وسبب ذلك أن الرشيد بلغه عن موسى الحطيب ( الوالى السابق ) أنه قال (( أنا أحسن من هارون الرشيد )) فقال الرشيد والله لأولين على مصر أوحش الناس شكلا (( فاستدعى عمر بن مهران وولاه على مصر )) .

- ومنهم الأمير عيسى بن يزيد الجلودى الذى اضطربت أحوال الديار المصرية فى أيامه و ثار بمصر رجلان وهما عبد السلام وابن جليس وخرجا عن طاعة أمير المؤمنين المأمون واستحوذا على القرى وبايعهما طائفة من القيسية واليمانية فتسببا فى أن يغزو أخو المأمون مصر ويقتل الرجلين ويقيم فى مصر مدة ثم يرحل .

- ومنهم الأمير عيسى بن منصور الرافقى الذى ثارت مصر فى عهده ( ثورة البشموريين ) بسبب غلوه في جمع الأموال فغزاها المأمون مؤنبا إياه (( هذا كله من سوء تدبيرك وجورك على أهل القرى وقد حملت الناس ما لا يطيقون وكتمت الأمر عنى حتى عظم !))
((ثم أن المأمون عين الأفشين وكان شجاعا فأخذ طائفة من العسكر وتوجه الى أعلى الصعيد وحارب أهلها وقتل منهم جماعة كثيرة و أسر النساء والصبيان وكان أكثرهم من القبط والحوف)) .

- ومنهم الأمير أحمد بن محمد بن المدبر الذى أحدث فى أيامه أنواعا من وجوه الظلم لم تكن بمصر .(( منها أنه حجر على الأطر ون ( النطرون ) والملح وكانا مباحين للناس ومنها أنه قرر على الكلأ الذى ترعاه البهائم مالا وسماه المراعى وقرر على مصايد الأسماك مالا وسماه المصايد و أحدث من هذه المظالم أشياء كثيرة ..... فلما جرى ذلك رحل غالب أهلها من الظلم وانحط خراجها فى أيامه الى الغاية حتى بقى ثمانمائة ألف دينار )) حاجة غريبة.. ما أشبه أمس باليوم .

- ومنهم أحمد بن طولون الذى عينه الخليفة المستعين بالله فجاء مصر وكان ضيق الحال يحتقره من يراه وكان بمصر شخص من الأعيان يقال له على بن معبد البغدادى وكان فى سعة من المال ... قلما رآه فى ضيق حال بعث إليه عشرة آلاف دينار فقبلها منه ... عندما مات أحمد بن طولون خلف من الذهب العين عشرة آلاف ألف ألف دينار ( عشرة مليارات ) ومن المماليك المشتروات سبعة آلاف مملوك ومن العبيد الزنج أربعة وعشرين ألف عبد ومن الخيول سبعة آلاف فرس ومن البغال ستة آلاف بغل ومن الجمال عشرة آلاف جمل ومن الفصوص والجواهر مائة صندوق ومن المراكب الحربية ألف مركب هذا خارجا عن الضياع والأملاك والبساتين وغير ذلك . يقول ابن اياس .. كان شديد الغضب سيئ الخلق سفاكا للدماء إذا قدر لم يعف حتى قيل مات فى حبسه ثمانية عشر ألف إنسان .

- ومنهم خمارويه والد قطر الندى التى تزوجها المعتضد بالله فنقل جهازها من مصر الى بغداد فى ستة أشهر .. وكان من جملة ما ذكر به مائة هاون ذهب و ألف سروال حرير وفى كل سروال جوهرة قدر بيضة الحمامة ... خمارويه هذا ذبحه خدامه .. كذلك خليفته أمير الجيوش قتل .

- ومنهم العبد الخصى كافور الاخشيدى .. حتى الخصيان حكموا مصر..

كافور هذا قال عنة المتنبي :
لا تشترى العبد الا والعصا معه إن العبيد لأنجاس مناكيد
من علم الأسود المخصى مكرمة أقومّه البيض أم آباؤه الصيد

ثم انتهوا بأبو الفوارس أحمد بن علي الإخشيد و كان عمرة 11 سنة فهرب من (جوهر القائد) عند غزوه مصر يوم الجمعة تاسع عشر شعبان سنة ثمانية وخمسين وثلاثمائة .(( نكمل حديثنا غدا )) .