كمال زاخر
[2] أزمة تديين الفضاء العام
لا شك أن مصر، فى مرحلة ما بعد 30 يونيو 2013، استطاعت أن تعبر عوائق عديدة فى سبيل استقرارها، فى محيط اقليمى يموج بالإضطرابات والأزمات، يتهدده التمزق والإنقسام، بل وقفزت قفزات واسعة فى بناء بنية تحتية راسخة تؤسس لتنمية حقيقية، وسط ظروف مناوءة، وتربصات عديدة تتحالف فيها كل القوى التى ازاحها الحراك الشعبى فى موجتى 25 / 30، ومعها قوى اقليمية تسعى لإزاحة مصر عن ريادتها الإقليمية، لتحل محلها، ولعل هذا يفسر الحالة الإستثنائية التى تمسك باللحظة المعاشة.
 
كانت ولازالت الورقة الطائفية المذهبية هى الأكثر استخداماً فى المنطقة، وفيها تتلاقى ارادات قوى خارجية وقوى داخلية، مع تباين اهدافهما، ففيما تسعى القوى الخارجية لتفكيك دول المنطقة، تسعى القوى الداخلية إلى استبعاد مكونات بعينها تراها معوقة لتحقيق حلم الخلافة، وهى ليست وليدة اليوم أو الأمس القريب، فقد تدشنت مع إعلان تأسيس جماعة الإخوان المسلمين 1928، بمصر، بدعم لوجستى وسياسى من المحتل الإنجليزى، ولم يكن توقيت الإعلان من قبيل المصادفة، فقد جاء بعد اعلان سقوط الخلافة فى طورها العثمانى 1923، وقبلها انفجار ثورة 19 التى اعادت بعث الحس المصرى المتجاوز للإنتماءات الضيقة، فى لحظة فارقة، واعتمدت الجماعة على منهج مغازلة العصب الدينى، وخلطه بالأحلام التاريخية المجهضة، وجاء شعارها، الصورة والكلمات، لتلخص منهجها ومساراتها، وحين ابتدع أهل الشام فكرة القومية العربية فى محاولة لمواجهة المد الدينى السياسى لم تتوقف الجماعة وأذرعها عن القفز عليها واختتطافها وأسرها، واللافت أن حركة ضباط 52 لم تكن بعيدة عن هذا المد الدينى السياسى، وسنوات حكمها الأولى شهدت تنسيقا وتحالفاً ومشاركة بين الحركة والجماعة، وثمة شواهد تقول بهذا، حتى بعد الصدام بينهما، والذى لم يكن صداماً ايديولوجياً بل صراعاً على السلطة، كانت أول وزارة يسند اليها مهمة بناء الرأى العام والتأثير فيه وعليه هى وزارة "الإرشاد"، هل كان تأسياً بمكتب ارشاد الجماعة؟!، وكان الوزير الذى استندت اليه وزارة التعليم هو كمال الدين حسين، الذى بادر بالإلتحاق بحزب اسلامى لاحقاً حين اعاد الرئيس السادات نظام الأحزاب، وكان حرص الجماعة الأول الدفع بعناصرها للالتحاق بكليات المعلمين بتنويعاتها، وفى تطور لاحق، مع مطلع الستينيات من القرن العشرين، يصدر قانون تطوير الأزهر، الذى يحول جامعته إلى جامعة عامة تدرس العلوم المدنية بجوار علومها الدينية، ويقتصر القبول فيها على الطلبة المسلمين، سواء مصريين أو أجانب، وتؤسس مدينة "البعوث" الإسلامية، لخدمة ورعاية المبعوثين للدراسة من كافة انحاء العالم فى جامعة الأزهر، التى تستكمل منظومتها التعليمية بسلسلة من المعاهد الأزهرية للتعليم قبل الجامعى فى كافة محافظات مصر.
 
صاحب نقل الأزهر من الفضاء الدينى الخاص إلى الفضاء العام تدشين إذاعة القرآن الكريم، ويتضافر التعليم والإعلام فى اعادة تشكيل الفضاء العام وتديينه.
 
تشهد مصر ثمة تغيرات متلاحقة أقرب إلى القدرية إذ يرحل الرئيس جمال عبد الناصر بغتة، وقد ترك مصر تعانى من تداعيات هزيمة يونيو 67 العسكرية، ومغامرات التدخل العسكرى فى اليمن، وارتباكات التحولات الاقتصادية الصادمة وغير المدروسة، ويأتى الرئيس انور السادات الذى ينقلب على خيارات المرحلة الناصرية، ويعمق تديين المجال العام، الذى بدأ قبله على استحياء عقب هزيمة يونيو، ويعيد احياء الخلايا النائمة لجماعة الإخوان المسلمين، ويدفع بهم الى مقدمة المشهد السياسى، وهذا التوجه ظهر قبل سنوات حين اسندت سكرتارية ورئاسة منظمة المؤتمر الإسلامى للسادات 1954.
 
ثمة شعار رفع "تمصير مصر"، فى عقدى الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، وقيل فيه أن المصريين أولى بادارة مرافق الوطن، فيما كان التطبيق يعنى مواجهة الوجود المكثف للأقباط فى العديد من الهيئات الحكومية، البريد والسكك الحديدية والبنوك، وشركات الكهرباء والمياه، ربما بسبب حرص الأقباط على تعليم اولادهم، وتميزهم فى امور الإدارة والمالية.
 
ثم تجتاحنا موجات البرامج الدينية فى الإعلام الرسمى وشرائط الكاسيت فى الإعلام الموازى، ومنصات الزوايا بالشوارع والأزقة، وظهرت شركات انتاج متخصصة، تهيئ الأرض لتأسيس اقتصاد اسلامى مواز، تحت وابل من الهجوم على البنوك وشيطنتها، وظهور البديل الذى يقى الناس من شرور الربا والاستثمار "الحرام" باستثمار "حلال" عبر سلسلة شركات توظيف الأموال، وبالتوازى تخرج دعوات "السنيما النظيفة" وتوبة الفنانات، وظاهرة الدعاة الجدد.
 
وتختفى النكهة المصرية، بدءاً من المظهر العام، ولغة الحوار وتحيات الصباح والمساء، لتتصحر اروقتنا وتتجهم، بعد موجات الهجرة المؤقتة لدول الخليج، التى فتحت ابوابها للعمالة المصرية وشباب المهنيين، من فنيين ومدرسين ومهندسين وأطباء ومحاسبين، الذين عادوا من هناك ومعهم على الطائرة، الكاسيت والمروحة الكهربائية والبطانية، والجلباب القصير، وقناعات بالنموذج المتصحر للتدين.
 
لم تكن افواج الهجرة المؤقتة وحدها، فى عودتها، هى من احتلت ارصفة الموانئ وصالات المطارات المصرية، بل زاحمتها افواج "الأفغان العرب" وهم شباب المصريين الذين ذهبوا للجهاد فى افغانستان ضد الوجود السوفيتى، بموافقة ودعم رئاسى، عادوا محملين برؤى يقينية "جهادية" ليترجموا قناعاتهم فى سعيهم لتطبيق النموذج الافغانى، فكانت التفجيرات والأعمال الإرهابية واستهداف الآمنين وفى مقدمتهم الأقباط.
 
ولم تكن الخطوط مقطوعة بين بعض الذين قدموا من الخليج والذين قدموا من افغانستان، وبين كلاهما وشركات توظيف الأموال.
 
وعندما حوصرت شركات توظيف الأموال بعد استشعار الدولة خطورتها على الإقتصاد الرسمى، وبعد تجفيف منابع التمويل نسبياً، ظهرت جرائم الإعتداء على محال الذهب المملوكة للأقباط، لتعويض تراجع التمويل، لكن مصادر التمويل الفكرى لم يقربها الحصار.