يقولون إن الأب هو الحب الأول في حياة ابنته، هو الظهر الذي تستند إليه والحضن الذي تحتمي به من تقلبات الأيام وأذى الناس. ولكن ماذا لو كان هذا الأب هو الأذى بعينه؟ عندما أسمع الفتيات يحكين عن ذكرياتهن مع آبائهن بحنين، أشعر بالحزن. فكل ذكرياتي معه تتلخص في الخوف والذنب والرفض والألم والشجار واللوم والقمص. لم أحس منك بحرص على أن تقيم معي علاقة طيبة أو تصنع معي ذكريات جميلة. لم تحاول الإصغاء إليّ أو تشاركني في المذاكرة، أو تسألني عن أحوالي مع أصدقائي، أو تحضر الحفلات الختامية للأنشطة التي كنت أشارك فيها.

والدي:
قد تبدو علاقتي بك الآن طيبة، ولكنني أراها هشة زائفة. فأنت لا تسمع، أنت فقط تلومني. هذا هو أسلوبك منذ كنت طفلة. عندما أتكلم أو أعترض، تخاصمني. ماذا يضيرك لو قلت لي يومًا: “حقك عليَّ يا حبيبتي”؟ لماذا عليّ دائمًا أن أبذل وأبذل، دون أن يحق لي أن أطلب منك شيئًا أو أقول “إني زعلانة”؟ هل تعتقد أن لك كل الحق وعليّ كل الواجبات لمجرد أنك أبي؟ هل أخبرك بشيء؟ أنا لا أشعر بالاحتياج إليك، ولا أرغب بوجودك في حياتي، لأن وجودك لم يكن سوى أذى.

بركان من الغضب
بداخلي بركان من الغضب عمره ثلاثون عامًا. تجرعت ذلك الغضب سنين عمري حتى صار يخنقني، ولم أعد قادرة على الاستمرار في علاقة عليّ فيها دائمًا أن أمحو نفسي وأدوس على مشاعري واحتياجاتي. ففي الوقت الذي كنت أتوقع منك فيه الاحتواء والتوجيه، كسرتتي وأذللتني واستغللت ضعفي. كنت تقول لي: “شوفي عقلك وداكي فين، سيبيلنا نفسك. إنتي كنتي هرم وانهار”، يا له من خزي! ألم تخطئ في شبابك؟ ألم تخطئ في حياتك لتعاملني بهذه الطريقة المهينة؟

لقد عاملتني كإنسانة فاقدة للأهلية أو كطفلة في الخامسة وليس كشابة يتفتح قلبها وعقلها للحياة. كنت تختار لي ملابسي، وتجبرني على إنهاء طعامي وتفرض عليَّ ذوقك في الأكل. كيف ينزل على المعدة هذا الطعام الذي يأكله الواحد بالإجبار والخوف والصياح؟

هل تذكر عندما كنت ممددًا على الكنبة، مسود الوجه، محمر العينين، مقطب الجبين من الغضب، وكنت أجلس أمامك على الكرسي. كنت تستجوبني وكأنك وكيل نيابة وأنا المتهمة. وقتها قمت وصفعتني على وجهي وسببتني “بالجاموسة والحلوفة”، وقتها صمتّ وكتمت ضحكي، ليس لأني حلوفة كما قلت، فأنا حساسة جدًا، وأنت لم تفهمني يومًا، ولكني كنت أحمي نفسي من مشاعر فاقت قدرتي على الاحتمال وقتها. لا أنسى هذا الموقف، وأشعر بالإهانة والذل كلما زارتني ذكراه. لقد كسرتني. أود لو عاد بي الزمن لأقوم وأمسك بيدك قبل أن تمدها إليّ، أو أدفعك بعيدًا عني، وأصيح وأبكي، ولا يهم ماذا كان سيحدث بعدها.

لماذا كرهت أنوثتي؟
جعلتني أكره جسدي عندما كنت تقول لي إنني “معضمة” وإن زوجي لن يجد في شيئًا. وجعلَتْني زوجتك أكره جسدي عندما كانت تقول لي إن ثدييّ مترهلان كأنني مرضع. جعلتماني أشك في نفسي، وأشعر أن جسدي قبيح. لا أنسى تلك الرائحة المقززة للأعشاب التي كنتما تفرضان عليّ تناولها يوميًا حتى يمتلئ جسدي وأعجب زوجي المستقبلي. وكأنني لم أخلق سوى لأرضي هذا الشخص. إذًا “عني ما عجبته”!

أخبرتني أنني يجب أن أنصرف عن اهتماماتي السابقة وأن أتعلم أشياء تنفعني في مستقبلي. ما هي هذه الأشياء؟ الطبخ، وتنظيف المنزل، والغسيل، والخياطة، وعمل حمامات الكريم، ولف شعري على بكر، والاهتمام بنفسي، ولم يخلُ الأمر طبعًا من مقارنتي ببنات العائلة. الآن فهمت لماذا لا أحب أعمال المنزل، ولماذا أنفر من أنوثتي. فقد ارتبطت لديّ بالضعف والقهر والدونية، فنبذتها ونبذت معها أنوثتي.

اليد الآثمة تمتد إلى جسدي
هل أزيدك من الشعر بيتًا؟ لقد تحرشت بي! أذكر الحدث وكأني أرى صورة مهزوزة. كنت أود لو أتذكره جيدًا أو يمحى من ذاكرتي تمامًا. ولكن هذه الحالة التي أنا عليها من عدم اليقين تدفعني إلى الجنون. أخاف أن أظلمك وألصق بك ما لم تفعله، ولكن ما الذي يجعلني أتصور حدوث شيء كهذا؟ هل كانت لمساتك عادية وأنا حملتها ما لا تحتمل، أم أنك لم تنتبه أنك تلمس عضوًا خاصًا في جسدي؟ ولكن كيف وأنت رجل بالغ متزوج ولديك ابنة في سن الزواج؟ هل كنت آتي في حضنك من تلقاء نفسي أم كنت أنت الذي تطلب مني؟ ولكن هل أكون مخطئة عندما آوي إلى حضن أبي؟

من الصعب عليّ أن أصدق أن الحضن الذي من المفترض أن يكون مصدر الأمان، كان هو منبع الغدر. إنه أمر مربك. كيف لأبي أن يكون بهذه البشاعة؟ ترتبط لديّ ذكرى هذا الحدث بمشاعر كثيرة ومتضاربة. شعرت أنني أنثى. مرة أخرى ارتبطت لديّ الأنوثة بالإثم والعار، فازددت نفورًا منها. لماذا سكتُّ؟ لماذا لم أدفع يدك؟ لماذا لم أبتعد؟ لقد شعرت بالارتباك والذهول فتجمدت من الصدمة، وما زلت أحاول أن أسامح نفسي. أحمل نحوك مشاعر الغضب والتقزز، فقد استبحت جسدي في الوقت المتوقع منك فيه أن تحميني.

بهذه اللمسات النجسة شوهت مشاعري وأفكاري. أصبحت أتوجس خيفة من أي رجل حتى يثبت العكس. أصبحت أرى أن الجنس شيء مقرف وحيواني، أتساءل بين الحين والآخر: “هو الأب ممكن يبقى حاجة تانية غير اللي شفته؟”. وما زلت كل يوم أكتشف حجم التشوه الذي أصابني بسببك. لا أقول ذلك ليرى أحد أنني ضحية. فأنا أؤمن بمسؤوليتي عن تعافيّ، وأرغب في أن أحيا حياة حقيقية وأصدق في قدرتي على ذلك، ولكني لا أرى لك مكانًا في حياتي الجديدة.

كيف أحبك وهذه ذكرياتي معك؟
هذه الأحداث مر عليها أعوام وأعوام، ولكن مشاعري نحوها حية، وكأنها وقعت الشهر الماضي. لم أعد أطيق رؤيتك ولا سماع صوتك، ولم أعد قادرة على نطق كلمة “بابا” وأنا أتحدث عنك. كيف أسامحك أو أحبك وهذه ذكرياتي معك؟ كنت أود لو أحببتك، وكنت أحتاج أن أحبك، ولكني لست مستعدة لحبك بعد، ولا أدري إن كنت سأقدر على حبك يومًا.
نقلا عن نون