كمال زاخر

[3] الأقباط بين الانكفاء والهجرة
::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::
ثمة ملاحظات واجبة قبل استكمال الإبحار فى الحالة المصرية الآنية، متعلقاً بالشأن القبطى، والعام 2019 يلملم ايامه الأخيرة، الملاحظة الأولى أن تناول احداث المرحلة التى بدأت بيوليو 52 وتراجع وضعية الأقباط بعدها بدرجات متفاوتة ومتصاعدة مع التغيرات القدرية برحيل انظمتها، المفاجئ فى حالة عبد الناصر، والدموى فى حالة السادات، والعاصف فى حالة مبارك، والملتبس مع 25 يناير 2011، والمفخخ فى 2012، والمرتبك بعد 30 يونيو 2013. لا يعنى أنها منبتة الصلة بما سبقها، أو أنها بغير جذور، ولعل المتابع لما سطره المؤرخون عن الأحقاب السابقة، يلمس أن المرحلة العلوية، 1805 ـ 1952، كانت استثناءً، على نحو ما، فيما يتعلق بالأقباط، شهدت قمماً وقيعان في التعامل الرسمى والمجتمعى معهم، وما قبلها والممتد حتى القرن العاشر، كان عنوانه التعسف والإحتقار حتى فى الوثائق الرسمية، وما أُلحق بالأقباط من نعوت وصفات فى احكام القضاء والعقود التى تحتشد بها مخطوطات الأنظمة التى تداولت حكم مصر خاصة المماليك والعثمانيين، ووثقها مؤرخون مسلمين ثقاة فى أزمنتهم.

والملاحظة الثانية هى ومضات التنوير التى اقتحمت مصر مع كل مرة يحدث فيها تلامس مع الغرب، وكانت واحدة من عوامل اكتشاف واستنهاض الحس المصرى، مرة فى اعطاف الحملة الفرنسية، رغم سنواتها القصيرة، ومرة مع رؤية الوالى محمد على وابتعاثه لنفر من شباب مصر إلى اوروبا، وعودتهم وسعيهم لنقل خبراتهم ومشاهداتهم، وهى ليست بعيدة زمنياً عن صدمة الحملة الفرنسية، ومرة ثالثة مع موجات المبشرين سواء مع الإحتلال البريطانى، أو عقب الحرب العالمية الثانية، وما أحدثته من إعادة الاعتبار للعمل الإجتماعى الإنسانى، عبر سلاسل المدارس والمستشفيات، الكاثوليكية والبروتستانتية ودورها فى تنمية المجتمع المصرى عند قواعده الشعبية وفى المدن وفى عمق الريف، وخلق أجيال مصرية تعمق لديها الحس الإنسانى المتجاوز للانتماءات الضيقة، ويعزى إليها اعتدال كثيرين من الكوادر المصرية "المسلمة" التى شكلت حائط صد ضد التطرف والإرهاب من خريجيها فى الريف والحضر، فضلاً عن دور هذه الارساليات المحفز فى تنبية الأقباط الأرثوذكس إلى حاجتهم الملحة لمراجعة واقعهم واعادة اكتشاف كنيستهم وازالة ركام قرون طالت من الإنقطاع، كان سر بقاء الكنيسة المصرية على قيد الحياة يكمن فى ليتورجيتها، منظومة طقوسها التى حملت سر عقائدها، وتناقلتها اجيالها، فى قرون الإنقطاع، محفوظة عن ظهر قلب حتى وإن غابت عن غالبية قواعدها الشعبية استيعاب عمقها اللاهوتى، وقتها.

كانت الخيارات أمام الأقباط لا تخرج عن ثلاثة، المقاومة العنفية، أو التقوقع والإنكفاء على الذات والإحتماء بغطاء ذاتى، أو الهجرة إلى الخارج لمن استطاع إليها سبيلاً، كان افتقارهم لامكانات المقاومة بعد تحولهم إلى أقلية عددية، وتراكم الخبرات المؤلمة التى ولدتها تجارب المقاومة التى تواجهت فيها مع بطش الحكام وعنفهم، فى عصور وقرون غابرة، يحول دون الخيار الأول، فلم يعد أمامهم سوى خيارى التقوقع والهجرة.

وكانت انظمة يوليو المتعاقبة مع هذين الخيارين، وتضافرت عوامل كثيرة لتحولهما من خيارات إلى حبال إنقاذ فى مواجهة ذهنية مسيطرة تقبل على مضض وجود الأقباط، وصار من الطبيعى أن تتضافر المنابر والإعلام ـ الدينى تحديداً ـ على التعريض بمعتقدات الأقباط، تحت غطاء أنه يأتى ضمن شرح معتقدات غيرهم، وهو أمر لا يمكن الخوض فيه أو حتى الرد عليه، فالتربص حاضر، واتهامات الإزدراء جاهزة، وقبل كل الأطراف بهذه الوضعية، كانت عوامل الطرد المجتمعى تدفع الأقباط دفعاً إلى الإحتماء بالكنيسة، وكانت الكنيسة راضية وفى مرحلة كانت مرحبة، مجتمع طارد وكنيسة حاضنة، لتتحول إلى مجتمع بديل.

ويأتى انكفاء الأقباط على ذواتهم واحتمائهم بأسوار الكنيسة، فى سياق تأميم الشارع السياسى وتقليص المشاركة الشعبية فى المشهد السياسى، فقد صدرت قرارات متلاحقة بإلغاء الأحزاب ومحاصرة العمل المدنى فضمرت الجمعيات الأهلية، وتم تدشين التنظيم السياسى الأوحد، فى محاولة لصهر التنوع والتعدد فى سبيكة غير متجانسة، وإن تمسكت انظمة يوليو باستيفاء الشكل "الديمقراطى" فأبقت على البرلمان واضافت إليه المجالس المحلية، وكلاهما يأتى عبر صناديق الإقتراع، التى شهدت بامتداد تاريخها تدخلات متعددة، وتفاجت تلك الأنظمة، رغم ذلك، بغياب ـ وللدقة تغييب ـ الأقباط عن هذه المجالس، فتم تعديل الدستور ليعطى لرئيس الجمهورية الحق فى تعيين عشرة أعضاء فى البرلمان، لتأتى التعيينات بنفر من الأقباط لعلاج عوار الانتخابات، ويستبدل انتخاب رئيس الجمهورية بالاستفتاء، فقد استقر فى الذهنية العامة، أن الرئيس باق فى موقعه حتى يحل أحد الأجلين وربما ثلاثة، الرحيل موتاً أو الرحيل اغتيالاً أو الرحيل انقلاباً. فيكون الاستفتاء هو الأكثر اتساقاً مع الواقع المعيش.

يمكن أن نحسب الإحتماء بالكنيسة "هجرة إلى الكنيسة" وقد تهيأت لها عوامل عديدة :
ـ كانت الأنظمة الحاكمة تراهن على الشعور الدينى للأغلبية، تغازله وتستخدمه، مما ولد استبعاداً واقعياً للأقباط، بدأ خفية وعلى استحياء، ثم غدا سافراً فى عقد السبعينيات وما تلاها.

ـ اختراق طائفى لمنظومتى الإعلام والتعليم، بل باتت كل مناحى الحياة تعبُر من مصفاة الرؤية الدينية فى جانبها الأصولى المتشدد بفعل عوامل عديدة يأتى على رأسها زيادة نفوذ الدول الخليجية النفطية، وقتها، ثم سيطرة حلم إعادة احياء دولة الخلافة.

ـ طالت المصفاة الأصولية الأدب والفن ونزلت الشارع لتكبله وتحكم حركته .

وجد الأقباط أنفسهم مدفوعون للبحث عن ساتر واق يحمى معتقدهم وايمانهم، وربما مواطنتهم، التى صارت فى مرمى سهام عديدة تنهش فيها وتسفهها، بل وتطور الأمر الى استهداف ممتلكاتهم وارواحهم فى موجات ارهابية، تحت تأثير تحريض مباشر من ابواق الدعاة فى العديد من المساجد والزوايا، بل ومن خلال بعض آليات الإعلام الرسمى وبخاصة المرئى منه ـ التلفزيون ـ وطوفان الكتب الصفراء من التراث والتى تتناول العقيدة المسيحية بالتفنيد والتجريح ورميها بالتحريف والشرك والكفر، ووجدت بعض رموز التطرف متسعاً دورياً فى صحف قومية وخاصة.

كان الساتر الواقى المتاح للأقباط هو الكنيسة فكان الإنسحاب من المجتمع والتحصن بها وفيها، تواكب مع هذا أن كانت قيادة الكنيسة فى يد مجموعة من الشباب الساعى لدور سياسى والمالك لأدوات مخاطبة الجماهير والتأثير فيها فبدأت الأديرة تفتح ابوابها لموجات من طالبى الرهبنة من حملة المؤهلات العليا.

تلاقت الأهداف بين انظمة حاكمة تسعى حثيثاً لأسلمة المجتمع وتهميش الأقباط، وكنيسة تسعى لجذب النخبة المثقفة ـ والتى من المفترض أن تكون فاعلة فى المجتمع وساعية لإحداث قدر من التوازن فيه ـ الى الرهبنة والإكليروس فكانت خسارة المجتمع القبطى مضاعفة وكذلك الوطن.

فى هذا المناخ كانت العلاقات بين الكنيسة وانظمة الحكم تتأرجح بين الوفاق والصدام، طالما صارت المعايير الحاكمة لهذه العلاقة معايير سياسية، ولعلنا نذكر كيف وصلت فى مطلع الثمانينيات الى أعلى نقاط الصدام فيما عرف بأحداث سبتمبر 1981 والتى انتهت باعتقال بابا الكنيسة واغتيال رأس الدولة ، ولم تعد إلى وضعها الطبيعى فيما بعد.

فى سياق غير منفصل تتنامى موجات هجرة الأقباط إلى الغرب، وإن اختلفت الأسباب، فدفعات المهاجرين فى الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم ( العشرين ) تختلف فى دوافعها ومراميها عن تلك التى هاجرت فى سبعينيات ذات القرن وما بعدها.

كانت الأولى فى أغلبها محملة بضغوط نظام عسكر يوليو وما سمى وقتها بتمصير المؤسسات والهيئات ـ البنوك والبريد والسكك الجديدية فضلاً عن الجامعات ومنظومة التعليم وغيرها ـ وهو الإسم الحركى لأسلمة النظام، والذى كان يسير بهدوء ولكن بقوة ببطء ولكن للأمام، فضلاً عن تداعيات قرارات يوليو التى عصفت بالملكية الخاصة وكان للأقباط نصيب أوفر منها. وقد تعرضنا له قبلاً.

بينما كان للمد الإسلامى الأصولى الفضل فى دفع الجيل الثانى للهجرة، وقد سيطر على جل مناحى الحياة فى الشارع المصرى، وحوصر الأقباط فى دائرة الإستبعاد خاصة من المراكز القيادية أو المؤهلة لهذه المراكز، المعيدون فى الكليات أو معاونى ووكلاء النيابة فى السلك القضائى أو الإلتحاق بكليات الشرطة والحربية، إلا فيما ندر ذراً للرماد فى العيون، الأمر الذى أدى إلى ندرة التواجد القبطى تبعاً لذلك فى دوائر القضاء واساتذة الجامعات أو قيادات الجيش والشرطة فضلاً عن غيابهم فى المجالس البرلمانية وقصر تواجدهم فى التشكيلات الوزارية المتعاقبة على وزارتين هامشتين، تتقلص احياناً إلى واحدة.

بينما لحقتهما أجيال تالية أضافوا إلى دوافعهم ـ فوق ما سبق ـ الضائقة الإقتصادية التى امسكت بخناق الوطن والتى قسمت الهجرة الى هجرة مؤقتة الى دول الخليج اجتذبت شباب المصريين ـ مسلمون فى غالبهم ـ وعادت بالكثيرين منهم وهم محملين بفكر طائفى منغلق، تحت تأثير انبهاره بمجتمع الرفاهة الذى اخترق ثقافتهم الهشة بمفاهيم ملتبسة ربطت بين غناهم وتدينهم باعتبار أن الثانية المسببة الحقيقية للأولى، ووقر فى ذهنهم ووجدانهم أن غيابها فى مصر وراء الفاقة والأزمة الاقتصادية الخانقة التى تعانى منها، وكان القسم الثانى الهجرة الدائمة والتى قصدت الغرب واميريكا اجتذبت شباب المصريين غالبهم من الأقباط والذى انبهر بدوره بنمط الديمقراطية الغربية وشيوع ثقافة احترام الإنسان لكونه انساناً واسقاط ذلك كله على واقع الحال فى فضاءنا المحلى.

وعلى الرغم من أن المهاجرين الأقباط الذين استقروا فى بلاد المهجر، قد حققوا نجاحات كبيرة، فى الدوائر العلمية والاقتصادية، بل والسياسية ايضاً، إلا أن أحداً لم يتعامل معهم باعتبارهم قوى ناعمة داعمة للوطن الأم، ولم ننتبه للتجربة اللبنانية الرائدة فى المهجر، والتى حولت جاليتها الى قيمة مضافة لحساب لبنان، رغم معاناته من المحاصصة الطائفية، وظنى أننا بحاجة الى شجاعة المواجهة وتصحيح العوار الذى ندير به ملف الاقباط والهجرة.
:::::::::::::::::::::::::::::::::::::
التالى
[4] الأقباط ملف أمنى (!!)