فاطمة ناعوت
«يموتُ الكاتبُ فورًا بعد كتابة النصّ. «هكذا تذهبُ المدرسةُ البُنْيَويّة فى النقد. فالنَّصُّ يصيرُ كائنًا مستقلاًّ. يدافعُ عن نفسه فيحيا، أو يُخفقُ فى الدفاع عن نفسه، فيموت. وليس على الكاتب حقُّ حماية نصّه بعد خروجه إلى النور. فالنصُّ لم يعد له؛ بل صار مُلْكًا للتاريخ وميراثًا للإنسانية. النصُّ الجيد يُكتَب له الخلود، والفقيرُ يموتُ غير مأسوف عليه، تمامًا مثل نظرية (الاصطفاء الطبيعىّ) للأحياء. وعمليًّا، مستحيل أن يرافقَ الكاتبُ النَّصَّ طوالَ الوقتِ ليدافعَ عنه. فالنصُّ يعبرُ الجغرافيا بعيدًا عن موطن كاتبه بالترجمة، ثم يعبر الزمنَ فيعيش بعد موت كاتبه بمئات السنين. فكيف يمكن أن يعملَ الكاتبُ محاميًا لكلماته؟!

La Mort De L›auteur أو «موت المؤلف»، نظريةٌ ابتكرها الفيلسوف الفرنسى «رولان بارت» عام ١٩٦٧، طالب فيها بالفصل بين النصّ وبين كاتب النص، الذى يُعدُّ ميتًا بعد كتابة ما كتب، ليتحرر النصُّ منه ويغدو كائنًا مستقلا، علينا التعامل معه بعيدًا عن شخص المؤلف. فربطُ النصّ بكاتبه إفقارٌ للنص. النصُّ نسيجٌ غزيرُ الخيوط. والكاتبُ خيطٌ واحدٌ فيه. النصُّ القوى يصمد أمام النقد، ويعيش وتتواتره الألسنُ مدى التاريخ. والضعيف يتهافت ويموت فى ذاكرة الناس.

هنا نتوقّف لنضحك من أى قانون يسجن كاتبًا بسبب رأى قاله أو كتاب ألّفه!، الكاتبُ ينفصل عن رأيه بمجرد قوله، و«يموت» أدبيًّا. فكيف يُسجن ميّتٌ؟! الأجدى محاكمة النصوص «الحيّة» وليس كاتبيها «الموتى». والنصوصُ القوية لا تحتاج عكازًا تتوكأ عليها، ولا تحتاج من يدافع عنها لأنها تصمد بقوتها الخاصة. والنصوص الضعيفة لا تستوجب عقاب كاتبيها، لأنها تسقط من تلقاء ذاتها لخوائها وتهافتها. فحين أنتقدُ رأيًا للشيخ الشعراوى، فهذا ليس مساسًا بالشيخ، بل برأيه الذى صار كائنًا مستقلا منفصلا عنه.

كذلك الأديان؛ مفترضٌ فيها القوة فى ذاتها، دون دفاع أحد عنها. فالله تعالى قادرٌ على حمايتها وحفظها لتعبر الأزمان والأمكنة؛ فتصل إلى آخر بشرىّ يأتى فى آخر الزمان، يعيش فى آخر بقاع الأرض. هنا أتذكّر الكلمة العبقرية التى قالها عبد المطلب بن هاشم، جدُّ الرسول: «للكعبة ربٌّ يحميها». الكتبُ السماوية هى ميراثُ البشرية بكاملها. ملكيةٌ إنسانية عامة. ليس لها وكلاء على الأرض يزعمون ملكيتها والوصاية عليها. ولا هى كتبٌ هشّة تحتاج من يدافع عنها، شأن القطع الإبداعية الركيكة التى يغضبُ مؤلفُها إن انتقدها ناقدٌ أدبى فى مقال نقدى (وليس فى ساحة محاكمة). النصوصُ الدينية تستمدُّ قوتها ليس بسيوف من يزعمون ملكيتها، بل من ديمومتها وقدرتها على عبور الزمن والمكان، ومن فاعليتها فى الارتقاء بأخلاق الإنسان وتربية روحه وعقله. هنا يظهر تهافت ما يُسمى «قانون ازدراء الأديان»، الذى أراه أولَ المتهمين بازدراء الأديان!، لأنه يتّهم الأديان بالضعف والهشاشة، والاحتياج إلى «عكاز بشرىّ» تتوكأ عليه لتصمد أمام منتقديها! الضعيفُ يحتاج السند فيستأجر «بودى جارد»، على عكس القوىّ الذى تنبعُ قوته من ذاته. هذا على المستوى النظرى. كذلك على المستوى العملى؛ مَن بوسعه أن يحدد إن كان بهذه العبارة أو تلك ازدراءٌ لهذا الدين أو ذاك؟ بوسع قاض أن يزعم أن بعبارة ما ازدراءً لدين ما، بينما يقضى قاض آخر بأنها لا تحمل شبهة ازدراء. الأمرُ خاضع لنسبية وجهات النظر. وهذا يُدخلنا فى ساحة «النقد الفكرى» وليس ساحة القضاء؛ التى تجلُّ وتسمو عن الهوى والنسبية. فهل يُترك الأمر على عواهنه ليكتب كلُّ مَن شاء، ما شاء دون ضوابط؟ بالطبع لا. لهذا حدّد الدستورُ المصرى ثلاثةَ محاذير تُخضعُ كاتبَها للعقوبة الجنائية: ١- التحريض على العنف، ٢- إشاعة العنصرية، ٣- الخوض فى الأعراض. لأن تلك المحاذير تضرُّ الإنسانَ وتهدد السِّلم العام. فيما عدا هذا يظلُّ الرأىُّ رأيًا يموتُ إن تهافت، ويحيا إن صحّ. احترموا الأديانَ بإلغاء القانون المهين للأديان. قانونُ ازدراء الأديان، هو ازدراءٌ للأديان. و«الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم