الاغتراب عن النفس موضوع هام، لأنه يتسبب فى متاعب روحية ونفسية وبدنية متعددة. فالإنسان يحوى فى أعماقه احتياجات نفسية معينة، يجب أن تشبع بطريقة سوية، حتى يحمل الإنسان على الراحة النفسية والأمان النفسى.

 
كذلك يحوى الإنسان- فى أعماقه- مواهب ووزنات وإمكانيات معينة تختلف من شخص لآخر، وإذا لم يتمكن الإنسان من استثمار هذه الوزنات، يفقد سلامه واحترامه لإنسانيته، وتنتابه الانفعالات النفسية المتنوعة والضارة.
 

- ما أسبابه؟ وما علاجه؟
 
الاغتراب عن النفس معناه الفشل فى إشباع الاحتياجات النفسية المختلفة، والفشل فى استثمار الطاقات التى يمتلكها الإنسان، مما يحدث ضغوطاً نفسية وعصبية فى حياة الإنسان، وما يتبع ذلك من آثار نفسية وجسمانية فى نواحى كيانه النفسى، وأعضائه الجسدية.
 
الحاجات النفسية الأساسية فى أعماق الإنسان احتياجات أساسية يصعب أن يحيا سعيدًا دون إشباعها بأسلوب سليم، وهذه بعضها:
 
1- الحاجة إلى الحب:
 
فالإنسان كائن اجتماعى لا يستطيع أن يعيش فى جزيرة معزولة من الأنانية والوحشية الداخلية، بل يريد الإنسان أن يكون محباً ومحبوباً. وفى أعماق كل منا طاقة عاطفية ضخمة، اكتسبها الإنسان من خلال انفعالات الحياة اليومية، حباً وكرهاً، فهذا يحب ذاك، والثانى يحب الفضيلة والثالث يحب المال... إلخ. هذه كلها عواطف تتجه نحو أشخاص أو أشياء أو قيم، وتختلف من إنسان لآخر حسبما يقابل فى حياته، وحسب تكوينه الروحى، فالإنسان الروحى يحب الجميع (الأشخاص)، ويحب الفضيلة (القيم)، ويكره الرذيلة (الخطايا والشهوات).
 
ومن خلال هذه التفاعلات العاطفية، يحقق الإنسان رؤيته للحياة ومبادئه التى يعتنقها عن قناعة، ومن هنا لا يحدث له اغتراب عن النفس، بل رضا وسعادة حقيقية.
 
أما إذا عاش الإنسان بعيدًا عن الله، فسوف تتحكم فيه الانفعالات الخاطئة، والشهوات المختلفة التى تخنق حريته، وعلاقاته بالآخرين، فيعيش كارهاً للغير، محباً ذاته ولذّاته، فيحيا الغربة، ويتغرب بالاغتراب عن النفس.
 
2- الحاجة إلى الآخر:
 
الإنسان السوى إنسان اجتماعى، يرى فى الآخرين أعضاء مكملة فى الجسد الإنسانى الواحد. والإنسان السوى يرى فى إخوته أعضاء مكملة له فى جسد واحد، بالتالى فهو لا «يغار» من الآخرين إذا ما رأى فيهم إنجازات ونجاحات إنسانية، ولا «يحسد» غيره لتفوقه أو لاقتنائه طاقات ليست له، ولا «يخاصم» أصدقاء لمجرد الأنانية والذاتية، بل هو يرى فى الآخر مكملاً له، ورفيقاً فى الطريق، وصديقاً للعمر.
 
وكما أن «الاختلاف» أساسى للجسد، إذ يستحيل أن يكون الجسد مجموعة متكررة من عضو واحد، كذلك فالإنسان السليم نفسياً واجتماعياً وروحياً، يرى فى «الاختلاف» (وليس الخلاف) مع إخوته، شيئاً أساسياً لسير الحياة وتكامل الوظائف.
 
لا حياة بدون «تنوع» و«اختلاف»، سواء فى الإمكانيات، أو الوظائف، أو المواهب الإلهية، المهم ألا يتحول «الاختلاف» إلى خلاف وخصام وانشقاق يدمر الجسد كله.
 
والإنسان الذى يحيا بالتوافق مع الآخرين إنسان سوىّ نفسياً واجتماعياً وروحياً، ولا يحيا بالاغتراب عن النفس، حيث يجد نفسه فى وظيفته ودوره فى المجتمع، وفى إسهامه فى البناء العام والجسد المتكامل.
 
3- الحاجة إلى الأمن:
 
إذ يستحيل أن يحقق الإنسان ذاته وهو خائف مرتعد.. فالخوف يشلّ الطاقات الكامنة فى حياة الإنسان، بينما الأمان النفسى يعطيها فرصة الظهور والانطلاق. المهم أن يكون استخدام هذه الطاقات، لخير الجماعة كلها، وليس لحب الظهور وطلب المديح والمجد الباطل. والمهم أن يكون الهدف هو مجد الله، الصاحب الحقيقى لهذه الطاقات، والمعطى والينبوع والمصدر الذى أودع هذه الطاقات فى الإنسان.
 
أما أن يعيش الإنسان خائفاً مذعوراً بسبب قيادة طاغية، أو جماعة لا تعطيه فرصة الإسهام، أو سيادة نزعات الشهوة والأنانية على الوسط المحيط... إلخ.. فهذا لن يسمح للإنسان بأن يحقق نفسه- بنعمة الله- بل سيرمى به فى قاع سحيق من السخط والتذمر والشلل، وبالتالى سيحيا عذاب الاغتراب عن النفس، إذ إنه لم يستطع تحقيق جوهر نفسه، وإبراز ما فى أعماقه من عطايا الله، لخير الجماعة.
 
4- الحاجة إلى الانتماء:
 
فالإنسان- كما ذكرنا سابقًا- مخلوق اجتماعى، خلقه الله تعالى جنينًا، ذكرا وأنثى، ثم أطفالًا، كما أوجد ألفة بينه وبين الطبيعة والطير والحيوان والأسماك، حتى لا يظل قابعاً فى جزيرة معزولة من الوحدة والأنانية، بل يدخل إلى علاقات الحب المقدس المعطاء، الأمر الذى يشعره بالانتماء.
 
والإنسان السوى تتسع دوائر انتمائه من الأسرة، إلى الديانة، إلى المصرية، إلى البشرية.. ومن هنا فهو يتعايش بحب مع كل من حوله، والحب علامة العطاء والبذل والتسامح والاحتمال.
 
أما إذا فقد الإنسان انتماءه، وعاش داخل أسوار الأنانية فهو يسقط بالضرورة فى الإحساس بالضياع، الذى يؤدى به إلى حالة اغتراب عن النفس.. فيظل حائراً يسأل نفسه: من أنا؟ وإلى أى فكرة أو جماعة أنتمى؟ وما قيمة وجودى؟
 
* أسقف الشباب العام

بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية
نقلا عن المصرى اليوم