مفيد فوزي
لولا هذا الرجل الذى أحفظ اسمه عن ظهر قلب، لما كان عندى هذا الاهتمام باللغة العربية، اسمه: حسن أفندى عبدالله، مدرس اللغة العربية ثالثة ثانوى أول، كان قلبى الهش قد وقع فى حب الجارة فنشطت قريحتى الشعرية وكتبت أبياتاً من الشعر العاطفى وعرضته على حسن أفندى، فكتب تعليقه بخطه: خطك ركيك وأبيات شعرك أكثر ركاكة!! وضحكت وبكيت فى وقت واحد، واتخذت قراراً أن أنصرف تماماً عن الشعر؛ فلست أريد أن أنافس نزار قبانى فى احتلال قلوب العذارى، لكنى أخذت ملاحظة حسن أفندى الأخرى وهى رداءة خطى مأخذ الجد. وأخدت دروساً فى الخط العربى وأفخر الآن بخطى الذى يفسره مراجعو الصحف؛ فهو ليس نكش فراخ كخطوط أغلبية كاسحة من المتعلمين. ولأنى مخلص للكتابة فوق الورق، صار خطى فى اللغة العربية يعبر عن أفكارى وصرت على المدى الطويل مهموماً باللغة العربية وأحوالها التى لا تسر. وكنت قد كتبت نداء للدكتور مصطفى الفقى أناشده أن يكون حال اللغة العربية البائس موضوع ندوة مصرية فلا يمكن السكوت عن التردى الذى أصاب لغة الضاد، عزتنا وعزنا، ولأن مصطفى الفقى- كمثقف كبير- حريص على اللغة العربية بحكم موقعه رئيساً لمكتبة الإسكندرية استجاب للنداء، وأضاف «من الممكن أن تكون ندوة عربية فالهم واحد». ذلك يتفق مع وضع المكتبة العريقة بكونها دولية الصفة. وقال «إن ندوة عربية لإعادة الاعتبار للغة العربية تحتاج الوقت والجهد»، ومعه كل الحق.

■ ■ ■

هذا المقال ليس أكثر من تذكرة بالندوة المأمولة المقترحة وهى محاولة للتفكير فى عناصرها وأيضاً الشخصيات الواجب دعوتها وهى مهمة المكتبة وجهازها الواعى بالقضايا الفكرية. من المهم- وأنا أدخل فى الموضوع- أن نتوقف عند مناهج اللغة العربية وطرق تدريسها، وأهدف من هذا إلى دعوة «خبراء اللغة العربية» ودعوة مؤلفى هذه المناهج للوقوف عند مستويات تعليمها.

من الضرورى أن نناقش طريقة التعليم، هل هى بأسلوب «التلقين» أم بالأسلوب اليابانى «اكتشاف المصطلح من الحياة» وهل من الممكن الاستفادة من عصر التكنولوجيا بدلاً من الطريقة القديمة فى فرض المعلومات؟ والأمر الآخر هل طريقة التعليم جذابة بحيث تصبح «حصة العربى» جذابة وليست منفرة؟ هناك يقين لدىَّ بأن «المادة هى المدرس»؛ فالمدرس الذى يتولى التدريس قادر على أن يحبب تلاميذه فى المادة. لقد كنت أكره مدرس الجغرافيا الذى يضرب بالشلوت عند رسم الخرائط.. وكرهت مدرس اللغة الفرنسية لأن العقاب كان على أصابعنا.. بالمسطرة!

إن العقاب المدرسى كان يفتقد الرقى فى أيامنا، ولكنه أفادنا.

ومن هنا، فالمدرس له دور فى حب أو النفور من المادة التى يدرسها. وفى اللغة العربية «قواعد»، وبدونها لا تستقيم اللغة، ففى الحساب كنا نتعلم جدول الضرب، وفى اللغة العربية «قواعد الإعراب»، واللغة العربية هى أكثر اللغات تحدثاً وإحدى أكبر اللغات وأكثرها انتشاراً فى العالم يتحدثها أكثر من ٤٦٧ مليون نسمة وهى اللغة الرسالة. وفى اليوم الثامن عشر من ديسمبر هناك اليوم العالمى للاحتفال باللغة العربية، واختيار هذا اليوم ليس مصادفة، فهو اليوم الذى قررت فيه الأمم المتحدة إدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل المقررة فى الجمعية العامة ولجانها الرئيسية وصدر هذا القرار يوم ١٨ ديسمبر عام ٧٣. وفى ديباجة القرار قيل «للغة العربية دور هام فى حفظ ونشر حضارة الإنسان» وقيل فى ملف اللغة العربية إن بها أكثر من ١٢ مليون مفردة، والناس يتحدثون فى الشارع بالعامية، ولكن اللغة الفصحى لغة الفكر والثقافة.

■ ■ ■

وليت مكتبة الإسكندرية تمهد للندوة يوم ١٨ ديسمبر ٢٠١٩، فى المناسبة ذات البعد التاريخى المهم، وإذا ناقشت اللغة العربية فمن الظلم اختزالها فى المرفوع والمنصوب. لكنى أتوقف عند «أفعال» الموبايل فى اللغة، حيث أصبحت بعض الكلمات الإنجليزية قد تحورت إلى العربية. فكلمة Delate معناها اشطب، وها هى بين الألسنة «دلِّت» تقوم بنفس المعنى! وكلمات أخرى دخلت العربية فلا هى عربية ولكنها إنجليزية شأن الإغراق باليفط الإنجليزية المعربة فى أسماء المحال. نكاد نكون قد هجرنا الأسماء العربية. فإذا دخلنا فصول تلاميذنا وجدنا النماذج الأدبية منفرة! نعم، رغم جماليات الأدب العربى فإن الاختيارات سقيمة، ولهذا لا تتمتع حصة اللغة العربية بالجاذبية، وفى المدارس الأجنبية حصة «العربى» ع البيعة وليست من ثوابت المناهج. وزمان، كنا نتعلم الخط العربى، الرقعة والنسخ، وما عادت حصة الخط. لهذا صارت الخطوط لأولادنا كئيبة ولا تكاد تُقرأ، وأصبح البعض يفضلون الكتابة على الكمبيوتر هرباً من سوء الخط العربى.

■ ■ ■

لابد أن نتوقف عند «تحريض» المدرسة على دخول الطلبة أو الطالبات المكتبة، فالقراءة هى نبع المعرفة ومخزون الثقافة. ودون القراءة، تفلس القريحة، وحبذا لو كانت إحدى حصص العربى فى المكتبة، فالتحريض على القراءة هو ألف باء الثقافة، والملاحظ أن «الكورة» سرقت اهتمامات الشباب؛ ومن هنا كانت التوصية بالكتاب حتى لو كان إلكترونياً، فهو كتاب وله محتوى. وربما يعيد أولادنا للصفحات خصوصاً عدم جاذبية كتب المدرسة. وما زال «التابلت» قيد التجربة والتجريب. لابد أن ندرك أن «الثقافة.. سلوك» وما صور التدنى فى السلوك والشتائم المتبادلة فى الشارع وفى بعض المتعلمين إلا نقص فى الثقافة، الثقافة بمعناها الشمولى. فى حصص «التعبير» التى كنا نطلق عليها «الإنشاء» لا بد من تشجيع أولادنا حين يبدعون فى التعبير. وليكن مدرس اللغة العربية هو الكشاف الأول للمواهب المبكرة. ولا أدرى هل أتوقف- بالمناسبة- عند «المجمع اللغوى» وربما أجهل جهوده، وإن كنت أتمنى الإفصاح عنها لندرك أن لهذا الكيان اللغوى ذى التاريخ رسالة مهمة فى تطوير اللغة وإبراز جمالياتها، فالملاحظ أن المجمع اللغوى قابع بعيداً، وربما كانت لجانه تعمل ولكنه «طحن دون دقيق». ومن المهم أن يتضمن مؤتمر أو ندوة اللغة العربية رجال المجمع اللغوى ويتكلموا، لنراهم، لا بد أن نعرف دورهم فى حفظ التراث وفى حماية اللغة فى أجهزة التليفزيون والإذاعة، حيث صارت الفصحى فى بعض الأحيان مادة للسخرية. باختصار: ما الدور المرسوم للمجامع العربية للغة عبر عواصم العالم العربى، وهل تمارسه بكفاءة أم هو «نشاط سرى»؟!

■ ■ ■

إن مبادرة د. مصطفى الفقى بالاستجابة للاقتراح المتواضع تعكس اهتمام هذا الكيان المصرى الدولى «مكتبة الإسكندرية» بالفكر، وهو أمر ليس غريباً على كيان يديره المفكر مصطفى الفقى. وأترك تنظيم السياق لأجهزة المكتبة المعنية ودعوة المشاركين المهمين ودعوة الشخصيات العربية الحريصة على هذا الهاجس. ولنسمع أصوات مجامع عربية للغة. إن الندوة أو المؤتمر هى صيحة للاهتمام باللغة وجاذبية تدريسها وتطوير مناهجها. لا بد من التوقف عند علم النحو وعلم الصرف وعلم التضاد والترادف وعلم الإعراب وعلم البلاغة الذى يشير إلى علم البديع وعلم البيان وعلم المعانى وعلم القوافى والعروض الذى يهتم بالميزان الشعرى.

لقد أغضبنا سيبويه كثيراً، وما زلنا!
نقلا عن المصرى اليوم