د. أحمد قنديل
 
إجماع على عدم شرعية مذكرتي تفاهم أردوغان والسراج
برزت الشراكة الاستراتيجية بين مصر واليونان بشكل غير مسبوق في مواجهة التفاهمات التي توصلت إليها تركيا وحكومة الوفاق الليبية 28 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019 حول مناطق النفوذ البحرية بين البلدين إلى جانب التفاهمات الأمنية والعسكرية الأخرى.
 
وروجت تركيا للأمر حتى وصفتها بـ"تفاهمات تاريخية" تغير موازين القوى في الصراع على الغاز في منطقة شرقي المتوسط.
 
وبعد أقل من 48 ساعة من الكشف عن مذكرتي التفاهم التي جرى التوقيع عليها من قبل الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ورئيس حكومة الوفاق، فايز السراج، في إسطنبول، اجتمع وزيرا خارجية مصر واليونان في القاهرة، كما أصدرت الدولتان بيانات حادة تدين التفاهمات بين أردوغان والسراج في تحرك حثيث من أجل تبديد تأثير هاتين المذكرتين. 
 
القاهرة وأثينا أكدتا عدم قانونية مذكرتي التفاهم المذكورتين، خصوصا مع عدم اتساقهما مع المادة الثامنة من اتفاق الصخيرات، التي لا تخول رئيس الوزراء الليبي توقيع مثل هكذا اتفاقات دولية، علاوة على أن المجلس الرئاسي الليبي يعاني من خلل جسيم في تمثيل المناطق الليبية، وتعتريه انقسامات سياسية ومناطقية حالت دون انعقاده كاملا.
 
كما اتفقت مصر واليونان أيضا على أن هذه التفاهمات تتعدى على المياه الإقليمية اليونانية، ما سيدفعهما إلى تسريع المناقشات بين الفرق الفنية حول عملية ترسيم وتحديد المناطق الاقتصادية الخالصة بين الدولتين، حسبما ذكر وزير الخارجية اليوناني في ختام زيارته للقاهرة.
 
مشروع القرصنة التركي
كانت مذكرة التفاهم بشأن الحدود البحرية بين أردوغان والسراج قد قوبلت برفض شديد اللهجة من جانب اليونان ومصر، في ضوء عدم وجود شواطئ متقابلة بين البلدين تبرر مثل هذا الاتفاق.
 
ورأت أثينا في هذه المذكرة تجاهلا لسيادتها على جزيرة كريت الواقعة في مياه البحر المتوسط.
 
وهو الأمر الذي جعل المتحدث باسم الرئاسة القبرصية، برودروموس برودرومو، يؤكد، الأحد الماضي، أن مذكرة التفاهم بين تركيا وحكومة الوفاق في ليبيا "تشوه الجغرافيا وتنتهك القانون الدولي وتخلق التوتر في المنطقة".
 
واستدعت الخارجية اليونانية سفير الحكومة الليبية في أثينا، احتجاجا على توقيع مذكرة ترسيم الحدود البحرية مع أنقرة. بل وهدد وزير الخارجية اليوناني بطرد السفير الليبي في أثينا إذا لم يكشف تفاصيل الاتفاق البحري والعسكري الذي وقعه السراج مع أردوغان في موعد أقصاه الخامس من ديسمبر/كانون الأول الجاري (الخميس).
 
ومن جهة أخرى، استنكرت القاهرة وأثينا أيضا بشدة عدم إعلان أي تفاصيل أو معلومات حول التفاهمات الأردوغانية - السراجية بشأن طبيعة ومدى الحدود البحرية بين تركيا وليبيا.
 
وهو الأمر الذي دفع كثيرا من المراقبين إلى قناعة مفادها أن هذه الخطوة التصعيدية من جانب أنقرة، تشير إلى أنها لم تكتفِ بمواصلة أنشطتها المخالفة للقانون الدولي في مجال التنقيب عن الغاز الطبيعي في المياه الإقليمية لقبرص بمنطقة شرق المتوسط فقط، (والتي كان آخرها إرسال سفينة التنقيب الرابعة إلى المياه الإقليمية لقبرص في النصف الثاني من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2019) بل إنها أيضا أصبحت عازمة على توسيع نطاق هذه الأنشطة البحثية عن الغاز والنفط إلى المياه الليبية في تحدٍ واستفزاز شديدين للمجتمع الدولي.
 
وفي ضوء ذلك، حذر هؤلاء من أن الخطوة التركية الأخيرة بالاتفاق مع السراج سوف تدعم مشروع القرصنة التركي اللاهث وراء ثروات الغاز الطبيعي والنفط في منطقة شرق المتوسط، خصوصا أن هذا الاتفاق يرهن سيادة ليبيا برا وبحرا وجوا بشكل تام، ويسمح للطائرات والسفن التركية بدخول المياه والأجواء الليبية دون إذن السلطات هناك.
 
وتوقع هؤلاء أيضا أن يؤدي تدخل أنقرة المستمر والمتزايد في الشأن الداخلي الليبي بشكل غير مسبوق وتقاربها مع مليشيات طرابلس وحلفائها السياسيين، مستقبلا إلى عرقلة تصدير الغاز من منطقة شرق المتوسط إلى أوروبا، من خلال توظيف هذه المليشيات في ضرب شاحنات نقل الغاز من مصر في طريقها إلى أوروبا أو في تفجير خط الأنابيب المزمع إنشاؤه بين إسرائيل وإيطاليا مرورا باليونان، والمعروف باسم "خط انابيب شرق المتوسط".
 
ومن جهة أخرى، توقع كثير من المراقبين أن تميل القاهرة وأثينا في المستقبل المنظور إلى التعامل مع المخططات التركية اللاهثة وراء الاستيلاء على جزء من كعكعة الاكتشافات الهائلة من الغاز الطبيعي في منطقة شرق المتوسط عن طريق الجهود الجماعية والتنسيق مع الحلفاء والشركاء.
 
ومما يؤكد ذلك، إعلان رئيس الوزراء اليوناني، كيرياكوس ميتسوتاكيس، أنه سيطلب من حلف شمال الأطلنطي (الناتو) خلال قمته المقررة هذا الأسبوع في لندن التدخل من أجل عدم اعتداء أنقرة على المياه الإقليمية اليونانية.
 
وأشار إلى أن "الحلف لا يمكنه أن يبقى لا مباليا عندما ينتهك أحد أعضائه القانون الدولي ويسعى إلى إلحاق الضرر بعضو آخر".
 
ومن جهة أخرى، لم يستبعد عدد من الخبراء إمكانية أن تقوم القاهرة باللجوء إلى جامعة الدول العربية من أجل سحب الاعتراف بحكومة فايز السراج، لا سيما أن مذكرتي التفاهم المذكورتين مع أنقرة جاءتا رغم دعوة الجامعة العربية - التي تضم ليبيا - لإنهاء التعاون مع تركيا احتجاجا على عدوانها على سوريا الشهر الماضي.
 
كما جاءت المذكرتان أيضا بعد شكاوى متكررة من الجيش الوطني الليبي، بقيادة خليفة حفتر، بأن تركيا تقدم الدعم العسكري لقوات السراج.
ولذلك لم يكن غريبا أن يصف مجلس النواب الليبي والحكومة الليبية المؤقتة، المتمركزة في شرقي البلاد، هاتين المذكرتين بأنهما "خيانة عظمى" من جانب السراج.
 
مؤشرات نجاح الشراكة المصرية - اليونانية
الشراكة المصرية - اليونانية في مواجهة التصرفات التركية المزعزعة للاستقرار في شرق المتوسط أصبحت ضرورة ملحة، خصوصا مع وجود كثير من المؤشرات الدالة على إمكانية نجاح مثل هذه الشراكة في تحقيق الأمن والاستقرار والتنمية لشعوب المنطقة، ولعل من أبرز هذه المؤشرات ما يلي:
 
أولا، رفض القوى الإقليمية والدولية للسلوك التركي المزعزع للاستقرار في منطقة شرق المتوسط. فعلى سبيل المثال، أكد الاتحاد الأوروبي على التأثير السلبي الخطير للأعمال المستفزة وغير القانونية التي تقوم بها تركيا في البحر المتوسط على العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي. وكان الاتحاد الأوروبي قد أقر في يوليو/تموز الماضي عقوبات على أنقرة، منها تعليق المفاوضات حول اتفاق النقل الجوي الشامل مع تركيا.
 
كما وافق الاتحاد الأوروبي أيضا على اقتراح المفوضية الأوروبية بتخفيض مساعدات تركيا قبل الانضمام لعام 2020، ودعا بنك الاستثمار الأوروبي إلى مراجعة أنشطة الإقراض في أنقرة. ووافق وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي على فرض عقوبات اقتصادية على تركيا قبل أسبوعين لمعاقبتها على عمليات التنقيب قبالة ساحل قبرص في انتهاك للمنطقة البحرية الاقتصادية الخالصة قبالة الجزيرة المقسمة.
 
وأمريكيا، عدّت واشنطن أعمال التنقيب التركي في المياه القبرصية بمثابة خرق لقواعد القانون الدولي.
 
كما قدم السيناتور الديمقراطي روبرت مينينديز والسيناتور الجمهوري ماركو روبيو، في 10 إبريل/نيسان 2019، مشروع قانون جديدا لمجلس الشيوخ الأمريكي بعنوان "قانون شراكة الطاقة والأمن في شرق المتوسط لعام 2019". وسيتيح مشروع القانون المقترح، حال إقراره من جانب مجلسي النواب والشيوخ ثم توقيعه من جانب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، للولايات المتحدة وقف الاستفزازات التركية من خلال تقديم مزيد من الدعم العسكري والمالي لكل من إسرائيل واليونان وقبرص.
 
ثانيا، نجاح مصر واليونان، بالتعاون مع 5 دول أخرى (قبرص، وإيطاليا، والأردن، وفلسطين، وإسرائيل) في إنشاء "منتدى غاز شرق المتوسط" يناير/كانون الثاني 2019، ومقره القاهرة، لدعم وتعزيز التعاون في مجال انتاج وتصدير الغاز الطبيعي من منطقة شرق المتوسط إلى أوروبا.
 
كذلك تمكنت الدولتان أيضا من تعزيز تعاونهما العسكري والاستراتيجي، وهو ما تمثل في إجرائهما، بالتعاون مع قبرص، مناورات "ميدوزا 9" في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. وفي هذا السياق، يشير المراقبون إلى أن هذه المناورات كانت من أكبر التدريبات البحرية الجوية المشتركة التي تنفذ في البحر المتوسط.
 
وقد اشتملت على تنفيذ كثير من الأنشطة؛ منها، على سبيل المثال، قيام القوات بتخطيط وإدارة أعمال قتال جوية وبحرية مشتركة، والتدريب على أعمال الاعتراض البحري وأعمال الإمدادات والتزود بالوقود ومكافحة الغواصات. كما تضمنت أيضا مكافحة أعمال التهريب والهجرة غير الشرعية، وتنفيذ حق الزيارة والتفتيش واقتحام السفن المشتبه بها وأعمال الإبرار البحري والجوي، بمشاركة عناصر من قوات الصاعقة والمظلات والقوات الخاصة البحرية في الدول الثلاث.
 
ثالثا، بدأ عدد من دول المنطقة، التي تتمتع بعلاقات وثيقة مع كل من القاهرة وأثينا، في اتخاذ كثير من الخطوات الرادعة للاستفزازات التركية. فعلى سبيل المثال، سعت قبرص، التي تفتقر إلى قوة بحرية كافية، إلى تطوير مستوى من الردع الفعال في مواجهة أنقرة، من خلال جذب القوى البحرية الغربية إلى جانبها، مثل الولايات المتحدة، وفرنسا وإيطاليا.
 
وعززت قبرص من تعاونها مع اليونان؛ إذ على الرغم من أن أثينا عضو في حلف الناتو فإنها ملتزمة بالدفاع عن قبرص في حالة وقوع هجوم تركي عليها (رغم أن أنقرة شريك لها في حلف الناتو). وفي الوقت نفسه، تطورت العلاقات العسكرية الثلاثية المصرية - اليونانية - القبرصية - المصرية، ومثيلتها اليونانية - القبرصية – الإسرائيلية، من خلال إجراءات مناورات عسكرية دورية وتبادل الخبرات العسكرية.
 
على أي حال، يمكن القول إن التقدم الثابت والملموس في الشراكة الاستراتيجية بين مصر واليونان يمكن أن يجعلها حجر الأساس للأمن والاستقرار في منطقة شرق المتوسط لبقية القرن الحادي والعشرين.
 
فهذه الشراكة أصبحت تلعب دورا كبيرا في تشكيل توازن قوى جديد ومؤثر في مستقبل المنطقة، خصوصا فيما يتعلق بإفساد المخططات التركية لزعزعة الأمن والاستقرار في شرق المتوسط.
 
وما يزيد من أهمية هذه الشراكة في المدى المنظور أن الرئيس التركي يبدو عازما على الاستمرار في محاولة تعطيل أي إنتاج إقليمي للغاز في شرق المتوسط من شأنه أن يقلل من أهمية تركيا كدولة عبور للغاز إلى أوروبا، فضلا عن أن الرئيس التركي سيكون، على الأرجح، أكثر جموحا في تهديد المنطقة بعد حصوله على نظام الدفاع الصاروخي الروسي المتقدم إس - 400، في تحدٍ كبير للولايات المتحدة وباقي الحلفاء في حلف الناتو.
 
كما أن الرئيس التركي سوف يميل، غالبا، إلى مزيد من المغامرات الخارجية في المدى المنظور من أجل صرف الأتراك عن المشاكل الاقتصادية الداخلية وحشدهم حول انتخابه مرة أخرى في عام 2023.