يسألُ أحدُ التلامذة أستاذَه: «لماذا لا توجّه لى أىَّ سؤال مثل بقية طلاب علمِك ومحاوريك؟»، فيجيبُ سقراطُ وقد انتبه لحضوره فجأة: «هل كنتَ معنا؟! لم تتكّلمْ فلم أرك! تكلمْ حتى أراك».

 
التلميذُ حاضرٌ حضورًا فيزيقيًّا وجسدُه مرئىٌّ للجميع، لكنّ عقلَه غيرُ مرئى، فغاب الجسد أيضًا. لأن العقل هو أداة الحضور الوحيدة فى حلقات النقاش وجلسات الحوار. الكلامُ يمنحُ الإنسانَ حضورًا بالقطع. لكن هناك كلامًا يسلبُ قائلَه الحضورَ، فيغيب رغمًا عن/ أو بسبب فائض القول والثرثرة. الحضورُ الكثيفُ لونٌ من الغياب، كثيفٌ أيضًا. رُبَّ صَموتٍ حضورُه أكثفُ من اللاغطى، إذ يعرف متى يتكلم وكيف وفيمَ يتكلم، ومتى يصمت ويُحسنُ الإنصاتَ والتأمل. الكلامُ فنٌّ، والصمتُ فنٌّ أصعبُ وأرقى.
 
الغيابُ الكثيف حضورٌ كثيف. ولذلك نتذكر موتانا ونجعل منهم أيقونات بعد رحيلهم، فيغدو حضورُهم أكثفَ من الأحياء ربما. ننسى أخطاءهم ونراهم ملائكة. الموتُ يجمّل البشر ويُلبسهم غلالةً من قداسة وسمو. فى رواية «تلصص» للروائى «صنع الله إبراهيم»، كان الطفل يتذكر أمَّه الغائبةَ وأقوالها طوال الوقت، فكانت حاضرةً أكثر من أبيه الحى.
 
وتقولُ النظرية الماركسية إن أقصى اليسار هو أقصى اليمين. الأبيض فى أسفل درجاته أسود، والأسود فى أعلى درجاته أبيض. الأبيض يحوى كل الألوان ويعكسها معًا، والأسود يمتصٌّ كل الألوان ولا يعكس شيئًا. الحضورُ المطلق والغياب المطلق شبيهان وصنوان. وبينهما ثالثٌ مرفوع وسيط. وباهت.
 
«المغامرون الخمسة» مجموعة ألغاز للكاتب الحبيب: «محمود سالم». كنا نقرؤها فى طفولتنا وصبانا. تعلّمنا فيها لعبةً جميلة. مشبكٌ صغير يخفيه أحد الصبْية، وعلى بقية اللاعبين أن يجدوه. مَن يجده يفوز ويحلُّ دورُه ليخبئه وهكذا. كان أحد اللاعبين ذكيًّا، إذْ شبكَ المشبكَ فى صدر قميصه فلم يره أحد. الكلُّ كان يبحث فى الأمكنة الخبيئة، ولم يدُرْ بخلد أحد أن تكون ضالتُه شديدةَ الحضور وفى مجال رؤيته!
 
هذا شرخٌ فى الجدار المواجه لمكتبى الآن. موجودٌ منذ سنوات لاشك. موجود لدرجة أننى لم أعد أراه. مثلما لا نرى السلّم الذى نهبطه ونرتقيه يوميًّا كوسيلة التواصل الوحيدة بالحياة. هو حاضرٌ جدًّا إلى درجة الغياب جدًّا. ومثلهما كل أعضاء جسدنا التى لا نشعر بها إلا حين تغيب فننتبه أنها (كانت) موجودة.
 
مَن منّا أرسل تحية الصباح لقلبه الذى يخفق دون كلل منذ عشرين أو خمسين أو ثمانين عامًا؟ أو رئتيه اللتين تُصفّيان له الأكسجين طوال الوقت دون شكر؟ أو بنكرياسه أو كبده اللذين يخلصانه من سموم الدنيا مجانًا؟ هى أشياء تعودنا وجودها كأنها حتمٌ مقدور وحقٌّ مشروع لا حاجة لنا أن نتأمل جمال حضورها. لكن مريض الفشل الكلوىّ له رأى آخر حتى لتكاد عيناه تخترقان أجساد البشر لتطمئنا أن ثمة كليتين فى الداخل تعملان بكفاءة دون غسيل. كليتان حاضرتان، فى مقابل كليتيه الغائبتين. معتادون على حضور أشيائنا فننساها. لأن الاعتيادَ يقتل الحضور. ولذا هو عدو المبدعين الأول فيحاولون دائمًا قتله حتى تحضر الأشياءُ ومن ثَمَّ تحضرُ الدهشةُ فالإبداع.
 
يُقال إن المرأة ترى التفاصيل فيما الرجل يرى الكُليّات وتغيبُ عنه دقائقُ الأشياء. وأقول: «ليس الرجلُ كالمرأة/ النساءُ يعرفن الزهرَ، والرجالُ لا يفطنون إليه/ إلا بعدما يذوبُ بين أصابعهم/ مُخلِّفًا طيبَه/ فيقولُ واحدُهم:/ كانت هنا زهرة!».(قصيدة «الشرفة»، ديوان «قارورة صمغ» دار ميريت).
 
وتقول النكتةُ المصرية: «فى أحد أكمنة حرس الحدود، كان بيعدى كل يوم راجل راكب دراجة وفيها جردلين رمل. فكان الحراس يفضّوا الجرادل علشان واثقين أن الراجل بيهرب فيها مخدرات. لكن مكانوش بيلاقوا فيها غير رمل بس.. كل يوم ع الحال ده، لغاية ما زهقوا. فين وفين عرفوا أنه كان بيهرّب دراجات!». لفرط حضورها لم يروها. «الدينُ لله، والوطنُ لمَن يحبُّ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم