أهم ما فى احتجاجات الشارع العربى هذه الأيام هو ثورة الناس على طبقة الحكم التقليدية المحتكرة للسلطة منذ أكثر من نصف قرن.

 
وأهم احتجاج داخل كل هذه الاحتجاجات هو الاحتجاج الشعبى الشيعى على رموزه فى المنطقة.
 
لماذا نعطى احتجاج الشيعة على الشيعة وزناً نسبياً أهم من احتجاج السنة على السنة أو الموارنة على الموارنة أو الدروز على الدروز؟
 
الحالة الشيعية لها خصوصية شديدة فى علاقة الزعيم بجمهوره.
 
الزعيم غالباً ما يكون له إرث دينى طائفى مذهبى، ومن المؤكد أنه حتى يحكم ويتحكم عليه أن يحظى برعاية الحوزة الدينية ودعم رجال العمامات السوداء.
 
إذاً هناك مسحة من القداسة الروحية والحماية الشعبية الاستثنائية المستمدة من أن «الزعيم» هو ممثل نائب الإمام الموجود فى «طهران» الذى ينتظر عودة الإمام من غيبته الكبرى، ذلك كان الشعور لدى العرب الشيعة حتى انفجار الموقف فى «طهران وبيروت وبغداد».
 
مع أى زعيم آخر من أى طائفة يسهل الخلاف معه، مسموح برفض شرعيته، الاعتراض على قراراته، التظاهر العلنى ضده، تمزيق صوره، المناداة بسقوطه، ولكن فى حالات الزعيم فى «طهران وبغداد وبيروت» فإن المسألة مشتبكة معقدة ملفوفة بمحاذير وأعراف تصل فى قداستها إلى ما يتساوى مع المقطوع به فى النصوص الدينية.
 
فى «بيروت» لم تكن رغبة الثنائية الشيعية أن يتقدم الرئيس سعد الحريرى باستقالته، لكنه فعلها.
 
ولم تفقد هذه الثنائية الأمل فى أن يعود الرجل عن قراره ويقبل إعادة تشكيل حكومة «تكنوسياسية» لكنه رفض رغم إرادتهما.
 
وفى العراق، أصرت «طهران» على رئيس الوزراء عادل عبدالمهدى أن يستمر فى عمل حكومته، وألا يستقيل، لكن «ثورة الغاضبين» فى المدن العراقية، وتحديداً فى جنوب البلاد، وبالذات فى كربلاء «تبعد عن العاصمة 150 كيلومتراً» دفعته إلى تقديم استقالته.
 
ليس سهلاً على رئيس وزراء شيعى أن يكتب التاريخ أن الغاضبين فى مدينة «كربلاء»، المقدسة عند الشيعة، التى تعود منذ القدم إلى العهد البابلى، وفيها مراقد المرجعيات الشيعية التاريخية، قد ثارت إلى حد حرق أهم مبانيها، وحرق القنصلية الإيرانية التى تستقبل سنوياً 4 ملايين حاج يزورون المدينة فى ذلك الوقت من كل عام بسبب ذكرى أربعينية الإمام الحسين، رضى الله عنه.
 
فى «بغداد» و«بيروت» استقالت الحكومة على عكس رغبة «طهران»، مقابل ثورة الجماهير لأن الفقر لا يعرف طائفة، والجوع لا يعرف ديناً.
 
وفى إيران ما زالت السلطات تقاوم بعنف وقسوة أى احتجاجات شعبية، وتلتزم برؤية المرشد الأعلى الإيرانى باعتبار التظاهرات «مؤامرة من جماعات مأجورة يتم استخدامها من قبَل الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية». ووصفهم ممثل «الخامنئى» بنفس صفة المتظاهرين فى إيران بـ«الرعاع المخربين الأوباش».
 
ولا أحد يستطيع أن يحدد بدقة ما هو المدى الزمنى الذى سوف تستطيع فيه الإدارة الحكومية فى «طهران» الاستمرار فى محاولة كسر حركة الشارع.
 
هناك تفسيران حول ثورة الشارع الشيعى على قياداته، كل منهما له بداية وخلاصة مختلفة عن الآخر.
 
التفسير الأول هو تفسير المؤسسة التقليدية الشيعية السياسية التى ترى أن حركة الاحتجاج «مصنوعة، مفتعلة، عميلة، تهدف إلى تحقيق تحالف داخلى مع حلفائها الإقليميين فى إسقاط حكم الثورة الإسلامية فى إيران».
 
بناءً على هذا التفسير لا بد من كسر حركة الشارع، ومقاومتها، وإفشال مطالبها سواء بالمواجهة أو بالالتفاف عليها أو بـ«خلطة سياسية من كليهما».
 
من هنا كانت مقاومة هؤلاء فى إيران بحملة اعتقالات، وفى العراق بالرصاص الحى والمطاطى وبسقوط أكثر من 400 ضحية.
 
التفسير الثانى، وهو يأتى مما يعرف الآن بالمعارضة أو اليسار الشيعى، وهو تيار غير مذهبى، يرى أن مصلحة الطائفة الشيعية الكريمة ليست فى التمترس داخل خندق المظلومية التاريخية ولكن من خلال «الاندماج فى نسيج أوسع داخل مجتمعاتهم الوطنية».
 
هذا التيار يؤمن بالدولة مقابل الحزب، وبالعلمانية مقابل الطائفية، وبالهوية الوطنية مقابل التبعية الطائفية لمرجعية خارجية.
 
من هنا لا بد من مراقبة حالة القلق الشديد التى تتابع بها «طهران» ما يدور فى الآونة الأخيرة داخل البلاد، ومحاولة تفسير وتقدير آثار الخسائر السياسية نتيجة فرض الشارع فى «بغداد» و«بيروت» شروطه على الحكم فى كلا البلدين.
 
كيف ستتعامل «طهران» مع نتائج الجولة الأولى من الصراع بين الشارع وإرادة القوى الحليفة لها فى العراق ولبنان؟
 
هذا هو سؤال الأسئلة، والأيام المقبلة حبلى بجولة جديدة من المواجهات.
 
كل ذلك مرتهن بموقف المركز الرئيسى لاتخاذ القرار فى «طهران» والحلفاء فى المنطقة.
نقلا عن الوطن