بقلم : فاروق عطية
   في بلداننا الناطقة باللغة العربية أو ما يطلقون عليها بالدول الإسلامية، تربينا من 1400 عام علي مناهج ثابتة لا تتغير منها على سبيل المثال لا الحصر: الإسلام دين ودنيا، القرآن صالح لكل زمان ومكان، القرآن شامل لكل أساليب الحياة سياسية واقتصادية وعلمية، أطيعوا الله والرسول وإولي الأمر منكم، الحاكم هو ظل الله علي الأرض ولا يمكن الخروج عن طاعته، الحاكم المسلم المستبد خير من الحاكم العادل الغير مسلم، لا ولاية لغير المسلم على المسلم، لا يؤخذ دم مسلم بدم كافر، أنتم خير أمة أخرجت للناس، غير المسلم كافر لا حقوق له أو ذمي مواطن من الدرجة الثانية يُدعي للإسلام والرافضون يخيرون بين القتل أو يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون، من يدخل الإسلام لا يمكنه الخروج منه وإلا اعتبر مرتدا يستباح دمه. هذه المبادئ تلقّن للأطفال منذ نعومة أظفارهم في البيوت والمدارس والمساجد حتي أصبحت مغروزة في جيناتنا وصعب التخلص أو الفكاك من براثنها.
   تعرضت كل البلاد الناطقة باللغة العربية آسيوية كانت أو إفريقية لغزو عربي بدوي استيطاني ديكتاتوري منذ أكثر من 1400 عام، قضي على حضاراتها ولغاتها وأديانها إلا من رحم ربي، كما قضي علي قومياتها وحدودها وأصبحت كل بلدان العالم متاحة يتنقل المسلم فيها كيف شاء مادام قد فتحها، وما عداها فهي ديار حرب لا بد من فتحها عاجلا أم آجلا ليصير العالم كله تحت راية الإسلام الذي يعلو ولا يعلى عليه، والجهاد لتحقيق ذلك فريضة عين على كل مسلم.
 
   مرت جميع بلداننا التي فتحت وأنتهكت واستعربت واستسلمت بمراحل مختلفة من الخلافات الإسلامية المختلفة: راشدون وأمويون وعباسيون وفاطميون، وفترات مختلفة من حكم الطوليون الأخاشدة والأيوبيون والمماليك وتلاها خلافة عثمانلية تركية متعنجهة، وجميها كانت بلا فخر استبدادية فاشية لا عدالة فيها ولا مراعاة للحقوق الإنسانية.
 
وعندما ضعفت الخلافة العثمانلية التركية قضي عليها الاستعمار الأوربي وقسمت بلادنا بمقتضى ما أطلق عليه خطة سايكس بيكو لدول ودويلات ترزح تحت رايات حكم الاستعمار الانجليزي والفرنسي.
 
   للحقيقة رغم مساوئ الاستعمار العديدة، قد كانت له بعض المزايا التي لا يمكن إنكارها كإدخال الحداثة والمدنية وإزاحة أكوام التخلف الرهيب الذي عشناه قبله، كإدخال المطبعة والسكك الحديدية والكهرباء ونظم الإدارة الحديثة وتدريس العلوم المختلفة التي كان محرم دراستها في الكتاتيب والمعاهد الدينية، كالفيزياء والكيمياء والأحياء والحساب والهندسة والفنون الموسيقية والسينما. وخلال هذه الفترة كانت معظم الدول الناطقة بالعربية تحكم ملكيا بحكومات شبه ديموقراطية علمانية، لو استمر وجودها لكنا قطعا تطورنا لحكم ديموقراطي علماني كامل يرتقي بنا لما هو موجود الآن في الدول الأوروبية العلمانية.
 
   خلال الفترة الاستعمارية ظهر العديد من الحركات السياسية والدينية والاحتماعية، بعضها يدعو للعلمانية والحداثة، بعضها يدعو للاشتراكية أو الشيوعية، وبعضها مضاد للآستعمار ويطالب بالاستقلال، وبعضها يدعو للقومية العربية، وبعضها حركات دينية رجعية تدعو لعودة الخلافة الاسلامية ورفعة الدين عن القومبات الوطنية مثل الوهابية والإخوان المسلمون.
 
وبعد هزيمة العرب في الحرب العربية الاسرائيلية 1948م بدأت الانقلابات العسكرية ضد الحكم الملكي في العديد من الدول الناطقة بالعربية كمصر والعراق وتونس وسوريا واليمن.
 
ورزحت معظم دول المنطقة تحت حكم عسكري فاشي متحالف مع الفاشية الدينية.
 
   بعد الهزيمة الأليمة أو ما أطلق عليه نكسة السادس من يونيو 1967م، خفّت قليلا قبضة العسكر ولكنها لم تستسلم خاصة بعد حرب الكرامة في السادس من أكتوبر 1973م، وبدأ ظهور الأحزاب الكرتونية على استحياء في مصر ولكنها كانت تدور في فلك الحزب الوطني حزب السلطة العسكرية. وقامت الحرب العراقية الإيرانية وأعقبها استيلاء أمريكا على العراق وإعدام الديكتاتور صدام حسين ليبدأ النزاع بين الشيعة والسنة بها لتغرق البلاد في حمامات الدم وسيادة الفاشية الدينية الشيعية المدعومة من الفاشية الدينية الإيرانية، وقابلها ظهور دولة الخلافة الإسلامية السنية (داعش) التي توسعت واتشرت في مناطق عديدة من العراق وسوريا ودان لها جيوب متعددة في سيناء مصر وصعيدها وعديد من مناطق ليبيا خاصة بعد مقتل ديكتاتورها معمر القذافي، بتمويل وتسليح وتعضيد ظاهر واضح من قطر وتركيا وخفي من السعودية والإمارات. 
 
   بعد تحرر الشعوب الناطقة بالعربية من ربقة الاستعمار، شعر الغرب أنه خسر مواقعه وخسر إرث الخلافة العثمانية، وفكر في استعادة إرث جديد يتيح له التحكم والسيطرة على ثروات هذه البلاد الكامنة وخاصة البترول. كان مهندس هذه الخطة هو بيرنارد لويس الصهيوني الذى كان مستشارا للرئيسين بوش (الأب الابن) الذى دَعي إلى تفكيك الدول العربية إلى كانتونات طائفية وعشائرية ورسم لها الخرائط، ووافق الكونجرس الأمريكي على خطته عام 1983م.
 
   وما جري في 25 يناير 2011م هو تنفيذ حرفي لخطة بيرنارد لويس التي تتيح للغرب التحكم والسيطرة على مواردنا وتقسيمها بينهم بل وتجزئة دولنا إلى دويلات، يسهل التحكم فيها حتى لا تفلت مرة أخرى من السيطرة، وتتيح لربيبتهم إسرائيل التمدد والتوسع. وتتبلور الفكرة فى إغراق البلدان الناطقة بالعربية في صراعات دينية وعرقية تشغلهم وتفتت دولهم من الداخل دون عناء يذكر والغرب يقتطف الحصاد دون أن يبذل جهدا في الزراعة، بدأت شرارتها من تونس وامتدت إلى مصر وليبيا واليمن، بتخطيط أمريكي محكم تنفيذا لخطة بيرنارد لويس ونمويل قطري وتعهد اخوانى بتلبية مطالب أمريكا في التقسيم والحفاظ على دولة إسرائيل القوية.
 
   نجحت الخطة أيما نجاح في السودان فانفصل الجنوب وفى الطريق انفصال دار فور في الغرب وكردفان في الشرق. كما نجحت الخطة فى العراق الذي كان يتميز بفسيفساء القوميات المختلفة المتآلفة المتحابة وتحولت بعد الغزو الأمريكي إلى قوميات ومذاهب متناحرة متحاربة أدت لانفصال الكورد بدولة فى الشمال وقريبا دولة للشيعة في الجنوب وأخرى للسنة في الوسط، وضاعت باقي الأقليات (ازيديين وصابئة وكلدان وآشوريين) وتكاد أن تتلاشى أعدادهم بالقتل والتهجير.     
 
   ولما استعصت عليهم بعض الدول كتونس ومصر وليبيا واليمن كان لابد أن يجدوا لها حلا مناسبا، فلجأوا لتكنولوجيا العصر كالفيس بوك وتويتر لحشد فورات الخريف العربي وتفجير تظاهرات عارمة ضد النظم الدكتاتورية التي هم أنفسهم قد أقاموها وأيدوها وعضدوها، وبعد نجاح هذه الفورات ساقوا لها جماعة الإخوان المسممين ومن لف لفهم كي يمتطوها.
 
لم يكن ذلك حبا أو قبولا أو إعجابا بهذه الجماعة ولكن كان ذلك بعد بحوث ودراسات قام بها المهتمون بمشاكل الشرق الأوسط من المستشرقين الذين نصحوا بتأييد الإخوان والجماعات المتطرفة الإسلامية المتحالفة معهم ليضربوا عصفورين بحجر واحد.
 
أولهما التخلص من صداع المتطرفين العرب المتواجدين فى الغرب الذين استغلوا الضيافة أسوأ استغلال، وملأوا الدنيا ضجيجا وعنفا مطالبين بتطبيق الشريعة الإسلامية، هذا غير المظهر السيئ الذى أحدثوه بافتراشهم الطرقات والشوارع لإقامة الصلاة بها مما يعطل انسياب المرور، وانتشار الحجاب والنقاب بين نسائهم، ورفضهم لأسلوب حياة الغرب الكافر الذى استضافهم، وثانيها إستغلال حمق وغباء الإسلاميين وكرههم للرأى الآخر حتى يؤججوا الفتنة الدينية بين المسلمين والمسلمين (سنة وشيعة) من ناحية، وبين المسلمين والمسيحيين من ناحية أخرى وبذلك تكون هناك حجة للتقسيم.
 
وقعت مصر في مصيدة الخريف العربي أو ما أطلق عليه هوجة 25 يناير. وبالغش والخداع والتضليل وتمويل أمريكي قطري وصل مرسى إلى كرسي الرياسة، وبدلا من أن يكون رئيسا لكل المصريين ومُحترِما للدستور والقانون كما تعهّد، حنث بكل الوعود وصار رئيسا لأهله وعشيرته وخالف القانون والدستور وأهان الشرطة والجيش والقضاء وأذل شعب مصر، حاول بكل قوة أخونة كل مرافق الدولة آملا أن تدوم سيطرة جماعته على الحُكم لمئات من السنين، لكنهم فشلوا في إدارة البلاد عام واحد، وزادت معاناة الناس من الغلاء وندرة وسائل المعيشة حتى ضجوا وأصابهم الإحباط التام. وبدأت بوادر تقسيم مصر والتخلّي عن أجزائها في سيناء والجنوب “حلايب وشلاتين" وقبض الثمن مقدما، وانقسمت مصر إلى مؤيدين ومعارضين وكفرة ومؤمنين.
 
   جرت مظاهرات 30 يونيو 2013م بجميع محافظات مصر مطالبة الرئيس محمد مرسي بالرحيل الذي قضي في الحكم عاما واحدا كان من أسوأ اعوامها. وكان ما حدث في 30 يونيو بتدبير وتخطيط الدولة العميقة من شرطة ومباحث أمن الدولة التي اعتدى عليها بعنف وسفالة، وقضاء حاولوا أذلاله وتحقيره وأخونة أعضائه، ومؤسسة عسكرية ومخابرات حاولوا القضاء على هيبتها، ووسائل الميديا المصرية التي حاول الإخوان الخلاص منها، وأنصار الحزب الوطني وأيتام المخلوع الذين تم إقصائهم من الحياة السياسية، ردا على فورة 25 يناير التي أطاعت بهم واعتلاها شرذمة الإخوان المسممين.
 
   تغير المشهد العربي غربا في بدايات عام 2019م. بالحراك الشعبي في السودان الذي لم ينته باسقاط نظام البشير الإخواني فحسب بل أنتج نظاما جديدا تشارك فيه قوى الثورة، وتلاها انتفاضة شعب الجزائر الذي استطاع اسقاط نظام بوتفليقة الفاسد ومازال الحراك مستمرا لإرساء نظام جديد، واكب ذلك تحركات لتصحيح الأوضاع في ليبيا لإعادة النظام بها.
 
كما تغير المشعد أيضا شرقا بثورة الأول من اكتوبر في العراق، وانتفاضة 17 اكتوبر في لبنان، وكلتاهما مستمرتان حتى الآن بهما عوامل إيجابية لا يمكن التنبؤ بختامها قبل أن تكتمل فصولها، خاصة وهما انتفاضتان شعبيتان عفويتان، لا يقف وراءهما زعماء او تنظيمات قوية، بقدر ما تتوحد ضمنها الطبقات الدنيا المسحوقة مع الطبقات المتوسطة التي يكاد ينعدم بينها ذلك التمايز المادي، الخوف كل الخوف من استغلال قوى الخارج لهما كما جرى في الانتفاضات السابقة وما حمله ذلك التدخل من كوارث وويلات خاصة وهما تسيران من دون ربَّان يقودهما، أو يقودها الغوغاء، من السهل اختراقهما من قبل سفارات أجنبية.
 
   من كل ما سبق نري أن المطالب بالديموقراطية والحياة المدنية في شرقنا الأوسخ تسير في نفق طويل دامس الظلام بخطوات متعثرة يحكمها الخوف وما ترسخ في العقول مما بثته وما تبثه الفاشيتان العسكرية والدينية منذ مئات السنين والبث مستمر، ورغم ذلك يحدونا الأمل لأن النفق مهما طال بالقطع له نهاية تحتاج الحركة شديدة السرعة حتي نبلغ نهايته ونري بصيصا من النور.