بقلم فاروق عطية
   ذكرت في المقال السابق أن الجيش الفرنسي قد انطلق من يافا إلى مدينة عكا الساحلية. في طريقه استولى علي حيفا بما بها من زخائر ومؤن، ثم استولى علي قلعة يافة الناصرة وقلعة الناصرة حتي وصل إلى بلدة صور. حاصر الفرنسيون مدينة عكا في 18 مارس 1799م ولم يتمكنوا من الاستيلاء عليها، تمت حماية مدينة عكا بقيادة الجزار باشا ونخبة المشاة العثمانيون التي أنشأها.
 
كانت المدينة على الساحل مباشرة، مما مكنها من تلقي التعزيزات وإعادة التزويد بالمؤن عن طريق الأساطيل البريطانية والعثمانية.
....
   بقيت المدينة صامدة ستين يومًا من الهجمات المتكررة غير الحاسمة، وكانت المدينة لا تزال في انتظار تعزيزات بحرية وجيش كبير يتكون في آسيا بناء على أوامر السلطان العثماني للسير ضد الفرنسيين. لمعرفة تحركات الفرنسيين، أمر الجزّار بهجمة مفاجئة ضد معسكر بونابرت.
 
كانت هذه الهجمة مدعومة بمدفعية وقصف بحري من البريطانيين.
 
استطاع بونابرت دفع قوات الجزار إلى خلف أسوار المدينة، ثم ذهب لمساعدة كليبر، الذي كان معه نحو 4000 فرنسي. ابتكر بونابرت خدعة استغلت كل المزايا التي قدمها له موقع القوات المدافعة، فأرسل مورات وفرسانه عبر نهر الأردن للدفاع عن معبر النهر وأرسل فيال ورامبون لنابلس، في حين وضع بونابرت نفسه وقواته بين العثمانيين والمخازن الحربية.
 
كانت هذه المناورات ناجحة، وعرفت الأحداث باسم معركة جبل الطور.
 
وكانت المعارك مفاجئة في العديد من المناطق مما أجبر الجيش العثماني على التراجع، تاركا جماله وخيوله ومؤنه، وخسر 5000 ضحية في ساحة المعركة. حين شُوهد أسطول يرفع العلم العثماني يقترب أدرك بونابرت أنه يجب عليه الاستيلاء على المدينة قبل وصول هذا الأسطول بالتعزيزات. أمر بونابرت بهجوم عام آخر، مما دفع العثمانيين إلى المدينة مرة أخرى وأجبر النيران العثمانية على التراجع. وهكذا كانت عكا على وشك الاستسلام.
 
   كان أحد هؤلاء الذين كانوا يقاتلون في الجانب العثماني هو اللاجئ الفرنسي والمهندس فيليبو، أحد زملاء بونابرت في المدرسة العسكرية.
 
أمر فليبو بوضع مدافع في المواقع الأكثر فائدة وتم حفر خنادق جديدة. في نفس الوقت هبط سيدني سميث ـ قائد الأسطول لبريطاني - وطاقم سفنه. جددت هذه العوامل شجاعة المحاصرين ودفعت قوة بونابرت إلى الوراء. كذلك صدت ثلاث هجمات فرنسية متتالية، مما أدى إلى إقناع بونابرت بأنه من غير الحكمة الاستمرار في محاولة الاستيلاء على عكا، وأمر قواته بالعودة إلى مصر.
 
في تقهقرهم كانوا متعبين وجائعين في الصحراء، وكانوا يحملون عددًا كبيرًا من المصابين بالوباء.
 
وحتى لا ينتشر الوباء وسط الجيش كان من الحكمة نقل المصابين إلى الخلف. كان هناك موقعان للعلاج، أحدهما في المستشفى الكبير في جبل الكرمل والآخر في يافا.
 
تم إجلاء جميع المرضى من جبل الكرمل بناء علي أوامر بونابرت إلى يافا والطنطورة. وقبل مغادرة عكا تم التخلّي عن الخيول، وقام بونابرت وجميع ضباطه بتسليم خيولهم إلى ضابط النقل ليستخدمها المرضى والمصابين، وسار بونابرت راجلا ليكون قدوة لجنوده.
 
   لسرية الانسحاب من الحصار، انطلق الجيش ليلا. وعند وصوله إلى يافا، أمر بونابرت بثلاث إجلاءات لمرضى الطاعون إلى ثلاث نقاط مختلفة، واحدة عن طريق البحر إلى دمياط، وأخرى براً إلى غزة وأخرى براً إلى العريش.
 
وأثناء الانسحاب، اختار الجيش تطهير جميع الأراضي التي مر بها، مع القضاء على كل من الماشية والمحاصيل والمنازل.
 
كانت غزة هي المكان الوحيد الذي تم الحفاظ عليه مقابل بقاءها موالية لبونابرت. ولتسريع الانسحاب، اتخذ بونابرت أيضا خطوة مثيرة للجدل تتمثل في قتل السجناء والرجال الذين أصابهم الطاعون على طول الطريق. يعلل أنصاره ذلك بأنه كان ضروريًا بسبب استمرار الملاحقة من قبل القوات العثمانية.
 
بعد أربعة أشهر خارج مصر، وصلت البعثة إلى القاهرة مع 1800 جريح، وخسارة 600 رجل بسبب الطاعون و1200 أثناء القتال. وهم في طريق العودة، روج المبعوثون العثمانيون والبريطانيون في مصر شائعات عن نكسة بونابرت في عكا، مشيرين إلى أن قواته الاستكشافية دُمرت بشكل كبير وأن بونابرت نفسه قد مات. في 14 يونيو دخل الجيش الفرنسي مدينة القاهرة.
 
وكان دخولهم القاهرة بعد رحلة شاقة قطعوا فيها 200 ميلا في 26 يوما، لكنهم تصرفوا تصرف جيش منتصر حيث كان جنوده يحملون أشجار النخيل وشارات النصر. سخر بونابرت من هذه الشائعات وعرض سبعة عشر علما من أعلام الأعداء وستة عشر أسيرا تركيا، كدليل أن الحملة قد حققت نصرا يدعو للفخر.
 
   في 11 يوليو أنزلت مائة سفينة على ساحل خليج أبو قير جيشا تركيا لطرد الفرنسيين من مصر فخرج نابليون من القاهرة متجها شمالا على رأس أفضل جنوده وانقض على الجيش التركي فألحق به هزيمة منكرة في 25 يوليو، حتى إن كثيرين من الترك فضلوا الاندفاع إلى البحر ليموتوا غرقى بدلا من مواجهة الفرسان الفرنسيين المندفعين بعنف.
 
ومن الصحف الإنجليزية علم نابليون أن التحالف الأوربي الثاني قد طرد الفرنسيين من ألمانيا، وأعاد الاستيلاء تقريبا علي كل ايطاليا، وأن صرح انتصاراته كلها قد انهارت عبر سلسلة من الكوارث من خلال هزائم مخزية، ووجد نفسه وجيشه الذي هلك معظمه محاصرا في مصر يحيط به الأعداء من كل جانب ويمكنهم القضاء عليه في غضون وقت قليل.
 
   في نحو منتصف شهر يوليو تلقى بونابرت أمرا من حكومة الإدارة كان قد أرسل له في 26 مايو، مؤداه أن يعود إلى باريس فورا. فصمم على العودة إلى فرنسا بطريقة ما رغم الحصار البريطاني، ليشق طريقه إلى السلطة، وليعزل القادة المخطئين الذين سمحوا بضياع مكاسبه كلها في إيطاليا بهذه السرعة المريعة.
 
نظم نابليون الأمور العسكرية والإدارية في القاهرة وعين كليبر ليكون على رأس ما تبقى من حلم بضم مصر إليها. كان عدد الجنود الفرنسيين يتناقص يوما بعد يوم وكذلك معنوياتهم، بينما أهل البلاد المقاومون يزدادون قوة ويتحينون الفرصة للقيام بثورة أخرى.
 
وكان من الممكن في أي وقت أن ترسل تركيا وبريطانيا العظمى قوات عسكرية إلى مصر يمكنها - بمساعدة أهل البلاد - عاجلا أم آجلا إجبار الفرنسيين على التسليم. وكان نابليون يعلم ذلك كله ولم يكن يستطيع تبرير مغادرته مصر إلا بالقول إنه مطلوب في باريس ولديه أمر بالعودة.
 
   كانت الفرقاطتان مويرو وكارير قد أفلتتا من الإبادة التي ألحقها الأسطول البريطاني بالأسطول الفرنسي في أبي قير، فأرسل نابليون أمراً بتجهيزهما في محاولة منه للوصول إلي فرنسا.
 
وفي 23 أغسطس 1799م ركب السفينة مويرو ومعه كل من بورين ومونج وبرثولين وتبعهم الجنرالات لان ومورا وديبو وغيرهم بالسفينة كارير.
 
بسبب الضباب وحسن الحظ أفلتت السفينتان من مراقبة جواسيس نلسون وأسطوله. لم يستطع نابليون ومن معه التوقف في مالطا لأن البريطانيين كانوا قد استولوا على هذا الموقع الحصين في 9 فبراير. وفي 9 أكتوبر رست السفينتان بقرب فريجو، وجدف نابليون ومساعدوه حتى الشاطىء عند سان رافائيل. 
 
   كان كليبر كارها البقاء بمصر ومعارضا لاحتلالها. وعندما سافر بونابرت عائدا لفرنسا وتسلم هو القيادة بادر بإطلاع فرنسا علي حراجة الوضع في مصر وطلب التصريح له بالتخابر مع الباب العالي العثماني على الانسحاب بطريقة لائقة لا تشين فرنسا. وكان الباب العالي أيضا راغبا في نزع مصر مرة أخري من يد الفرنسيين.