بقلم :   زهير دعيم
 
انّ النقد البنّاء بشكل  عام ، هو فنٌّ وأي فنّ ؛ فنٌّ  ينمّ عن اطّلاع وسيع لصاحبه في امور  شتّى ، وعن سعة افق وكفاءة وجدارة ونزاهة،  بحيث يأتي النقد مُقْنِعًا،  مدعومًا بالاثباتات والحجج مع توخي المصلحة العامّة لا الخاصّة الضيّقة .
 
  وقديما كان الناقد يحتل مركزًا محترمًا في المجتمع فيسلخ عليه لقب الحكيم والمُجرّب والحجة  في الشيء والخبير وما إليه.
 
انّ هذا التفسير العامّ ، ينطبق انطباقًا تامًّاعلى الناقد الأدبي  الذي يرمي من خلال نقده الى رفع مستوى الكاتب ، وتصحيح مساره ووضع الإصبع على نقاط الضّعف، والإيحاء والتصريح غمزًا وجهارًا بهفوات هنا و هناك، كان الأجدر بالأديب ألا يقع فيها ، وذلك حتّى يتلافاها لاحقًا.
 
   لقد كان النقد دومًا دِعامة ترفع شأن الأديب وتُبرزه وتقوّم مساره، وكلّنا يذكر الكاتب الساخر برنارد شو كيف انه كان ينشر قصة ، ثمّ يقوم بنقدها في الأسبوع الثاني وفي نفس الصحيفة  وتحت اسم مُستعار ، فيهاجمها  ويُبيّن نقاط ضعفها ، ليعودَ في اسبوع آخر وتحت اسم مستعار آخر ليردّ على الناقد داحضًا نقده ، مُظهرًا الجوانب الجمالية الأخّاذة في القصة أو في  المقالة .
 
  هذا الكاتب المبدع جعل القرّاء يتابعون القصة والنقد والنقد المُضادّ، ممّا رفع من شأن برنارد شو في بداية طريقه ، رغم انّه كاتب مطبوع حقًّا ،  وكان سيصل الى مصاف الادباء العالميين حتّى لو انّه لم يستعمل هذا الاسلوب الابداعيّ الظريف .
 
  في ادبنا العربي كوكبة لا بأس بها من النُّقّاد صالوا وجالوا صولاتٍ وجولاتٍ ، وكان لهم الفضل الكبير في تصحيح مسار الكثير من الادباء ، ولعلّ اشهرهم الدكتور محمد مندور ، ايليا الحاوي ، حسين مروّة ، ميخائيل نعيمة ، مارون عبّود والعقّاد وغيرهم . هذه الكوكبة تركت بصماتها جليّة واضحةً في حقل الادب العربيّ ، فجاء الحصاد كثير القمح قليل الزؤان ، فلم يحابوا احدًا ، ولم يتزلّفوا لقريبٍ بل كان نقدهم احيانًا هامسًا رقيقًا ،  واحيانًا عاصفًا  كما الحزّ في اللحم الحيّ،  حتى ان احدهم قالَ : " ان هناك بعض الأورام في جسم بعض النصوص علينا ان نقطعها".
 
     اما في ادبنا المحليّ –وهنا بيت القصيد –فاننا والحقّ يُقال يتامى ، فإنك لن تجد ناقدًا فذًّا حتّى ولو فتشّت بفانوس ديوجين  ليلًا ونهارًا.
   قد اكونُ مُغاليًا وظالمًا ، ولكن هذا هو الواقع المرير . فالنُّقّاد المحليون قِلّة ، وحتى هذه القِلّة المقبولة نوعًا ما ليست على اطّلاع وسيع على حقول الادب وسنابله.
 
   كما انها ليست في مستوى النزاهة السّامية ، فترى البعض يكيل المديح لفلان من الشعراء لانه ابن ملّته وابن بلدته او كان زميلًا له على مقاعد الدراسة ، فيروح يغدق علية المزايا الالهية ، ويهيل عليه الثناء اللامُتناهي . فكلّ نصٍّ كتبه هو خالدٌ سرمديّ ، يستحق ان يُسجّل بماء الذهب على أطراف السماء ، اما أدب غيره فهو فجٌّ وحِصرم .
 
    من الخطأ بل من الجريمة التجنّي هكذا وبجرّة قلم،  فنروح نشطب فلانًا او فلانة من قاموس الادب والشِّعر ، ونروح بجرّة قلم أخرى ، نتوّجُ فلانًا امبراطورًا لا يُشَقُّ له غبار ، في حين اننا لم نقرأ  الادب بما فيه الكفاية , ولم نسافر في فيافي ورياض القصائد العالمية والعربية  حُفاة مكشوفي الرؤوس !!
 من ناحيةٍ أخرى جميل ان يعترف أحدنا نحن معشر الادباء بالاخطاء وبضعف نصّ ما ، أو عدم نضوج فترة ادبية ما من حياتنا ، فالعُظماء نهجوا هذا النهج . وهنا يحضرني ما صرّحَ به فيلسوف المهجريين جبران حين ندِمَ قبل صدور النبيّ على كلّ ما خطّه قلمه ، وقال بما معناه : " لو عُدت الى شبابي  لاحتفظتُ بكلّ النِقاط وجمّعتها واطلقتها شلّالًا واحدًا يجرف كلّ الأدران .
 
  وبالفعل أصدر جبران بعد ذالك  كتاب "النبيّ "الذي رفعه الى مستوى العالمية ، رغم ان جبران في كلّ كتبه من كتاب الموسيقى وحتّى النبيّ كان مقدامًا، مُبدِعًا ، فيه حِسُّ الشرق وروحانيته ، الى جانب جبروت الغرب وصناعته.
 
  جميل ان ننتقد , ولكن بعد ارتواء وشبَعٍ من شجرة الحياة الادبيّة ، وبعد ان نلفظ العائلية والطائفية والصداقة جانبًا  فلا يصِحّ ان نُصفّق لشاعر ما وقد كتب عن " القعّادة ونروح نصوّبُ سهامنا نحو شاعرٍ أجادَ في موضوعٍ يقُضُّ مضجع العالم والإنسانية .
 
  واخيراً لعلّ كلمة النقد تحمل من خلال لفظها ايضًا، معنى اللسع والهمز والغمز ، ولكنها يجب ان تبقى هامسةً ، رفيقةً ، فيها عنصر الأبوّة ، وما اظنّ ان الأب يقصد من وراء نقده لبنيه،  سوى الاصلاح والاصلاح والنجاح .