كتب : سامح جميل
أزمة ديون مصر في عصر إسماعيل: الخديوي إسماعيل يوافق على بيع 177.642 سهم من أسهم السويس'>شركة قناة السويس إلى بنك روتشيلد (وصاحبه ناثانيال ماير روتشيلد) مقابل أربعة ملايين جنيه استرليني. ووقع على عقد البيع كل من إسماعيل باشا صديق نائباً عن الحكومة المصرية ، والجنرال ستانتون نائباً عن الحكومة الإنجليزية، بحضور نوبار باشا ومهردار الخديوي.
 
بدأت حالة البلاد المالية مزدهرة في أوائل حكم إسماعيل إذ صادفها الحرب الأهلية الأمريكية التي أدت إلي نقص محصول القطن الأمريكي وصادراته، وزيادة إقبال المصانع على القطن المصري وارتفاع أسعاره، فكانت سنوات الحرب سنوات يسر ورخاء لمصر.
 
كان محصول القطن المصري سنة 1860 لا يزيد عن نصف مليون قنطار تقريباً، بيع بثمن مقداره 1.107.887 ج، وبلغ 596.200 قنطار سنة 1861 وبيع في تلك السنة بمبلغ 1.430.880 ج، ثم صعد في السنوات التالية وتضاعف سعره كما تراه في البيان الآتي :
 
السنة صادرات القطن متوسط سعر القنطار
سنة 1861 596.200 قنطار 280
سنة 1862 721.052 قنطار 460
سنة 1863 1.181.888 قنطار 725
سنة 1864 1.718.791 قنطار 900
سنة 1865 2.001.169 قنطار 635
فترى من هذه المقارنة مبلغ الزيادة الكبيرة في الثمن، ويتبين منها مقدار ما دخل البلاد من النقد مقابل بيع القطن وترى أيضاً مقدار اطراد الزيادة في المحصول ذاته، ولا غرو فإن ارتفاع أسعار القطن زاد في إقبال الناس على زراعته، فصار محصوله سنة 1865 أربعة أمثال ما كان عليه سنة 1860.
 
ويتبين من الجدول الآتي اطراد الزيادة في سعر القنطار من رتبة جودفير مدى السنوات الخمس التي استمرت فيها الحرب الأمريكية مع مقارنتها بالسنتين السابقتين عليها :
 
السنة أقل سعر للقنطار (بالريال) أقصى سعر للقنطار (بالريال)
سنة 1859 10.5 14.5
سنة 1860 11 13
سنة 1861 11.5 17.5
سنة 1862 16 32
سنة 1863 30 46.5
سنة1864 37 52
سنة 1865 22.5 41
على أنه لم تكد الحرب الأمريكية تنتهي سنة 1865 حتى حدث رد فعل في أسعار القطن، وبدأت الأزمة في مصر تلك السنة، لما كان متوقعاً من منافسة المحصول الأمريكي للقطن المصري، ويتبين من الجدول الآتي تناقص أسعار القطن ومحصوله مدي السنوات التي أعقبت الحرب.
 
السنة صادرات القطن بالقنطار متوسط سعر القنطار 1865 2.001.169 635
 
1866 1.288.762 705
 
1867 1.260.946 450
 
1868 1.253.455 380
 
1869 1.289.714 460
 
1870 1.351.797 390
 
1871 1.966.215 315
 
كان من نتائج صعود أسعار محصول القطن في سنوات الحرب الأمريكية أن انغمس الأهالي في الترف والإسراف، وتوسعوا في النفقات، واستدانوا من المرابين بفاحش الفوائد بأمل استمرار الصعود في أسعار القطن، ولم يتبصروا العواقب، فركبتهم الديون، وأخذت الحالة تشوء في نهاية سنة 1865 ـ إذا أخذ الدائنون يطالبون بديونهم، وحدثت أزمة عالجتها الحكومة بالتدخل بين المدينين دائنيهم صونا للثروة العامة، وضنا بها أن تنتقل إلي أيدي المرابين والتجار والماليين الأجانب، فتعهدت بسداد ديون الاهليين على أن ترجع بها عليهم.
 
تأثرت الحالة المالية بسبب هذه الأزمة، على أنها لم تكن السبب الوحيد لسوء الحالة، وقد كانت أزمة طارئة لا تلبث إذا عولجت بالحكمة وحسن التدبير أن تزول وتعود البلاد سيرتها من الثبات والتقدم، ولكن السبب الجوهري لسوء الحالة هو توالي الديون الفادحة التي اقترضها الخديوي إسماعيل، فإن هذه القروض قد حملت البلاد حكومة وشعباً عبئاً فادحاً عجزت آخر الأمر عن احتماله، وناهيك بقروض أفضت بالحكومة إلي الإعسار وتدخل الدائنين في إدارتها، فكان شأنها شأن المدين الذي ركبته الديون وعجز عن السداد ووضعت أملاكه وأمواله تحت الحراسة القضائية.
 
فالقروض إذاً هي السبب الأساسي لسوء حالة البلاد المالية، وقد ظهر أثرها في اختلال توازن الميزانية، إذ ابتلعت فوائد الديون معظم موارد الدخل، ولم يبق من هذه الموارد إلا النزر اليسير لإنفاقه على حاجات البلاد ومرافقها.
 
لم يكن للحكومة ميزانية بالمعنى الذي نفهمه اليوم، لأن الخديوي لم يفرق بين مالية الحكومة وماليته الخاصة، بل كان يعتبرهها أمراً واحداً، وكانت أموال الدول رهن إرادته، يتصرف فيها كما لو كانت أمواله الخاصة، ومن هنا جاء الخلل وسوء الإدارة وضياع الأموال بغير حساب ولا رقيب، ولا يمكن أن يطلق لفظ " ميزانية " على تلك الأرقام الإجمالية التي كانت الحكومة تنشرها عن إيراداتها ومصروفاتها، لان هذه الأرقام لا تبين حقيقة الإيراد والمنصرف، ولم تكن مطابقة للواقع، فإن كثيراً من أبواب الإيراد كانت تغفل في الميزانية، ولا يعرف أين تذهب متحصلاتها، ولم يكن من المحتمل أن ميزانية يتولى وضعها وتنفيذها وزير مالية مثل إسماعيل باشا صديق مدة ثماني سنوات متوالية تكون ميزانية جدية يعرف منها حقيقة الدخل والخرج، بل لابد أن تكون مثال الفوضى والخلل، ولم يكن للمجلس الخصوصي (مجلس الوزراء) ولا لمجلس شورى النواب تأثير فعلي في المسائل المالية، بل كانت إرادة الخديوي هي القانون، وأوامره، حتى الشفوية، هي النافذة في كل الشؤون.
اسراف اسماعيل:
إذا لم تكن البلاد هي التي دعت إلي اقتراض تلك الملايين ففيم كانت تنفق إذن ؟ إن الجواب لا يحتاج إلي عناء كبير ، فإن إسراف إسماعيل هو الباعث الأكبر على مأساة القروض.
 
إن الجانب السيئ من شخصية إسماعيل هو إسرافه وأنفاقه الأموال من غير حساب أو نظر في العواقب ، وهو بلا مراء مضرب الأمثال في هذا الصدد ، فقد كان متلافاً للمال ، وظهر هذا العيب في حياته العامة ، وحياته الخاصة ، ظهر في بناء قصوره ، وتأثيثها ، وتجميلها ، كما ظهر في حياته الخاصة ، في حفلاته وأفراحه ، ومراقصه ، ورحلاته وسياحاته ، وأهوائه وملذاته.
 
أمثلة من إسراف إسماعيل:
بنى الخديوي إسماعيل نحو ثلاثين قصراً من القصور الفخمة ، وكان دائم الرغبة في التغيير والتبديل ، وكان بعض القصور التي يبنيها لا يكاد يتم بناؤها وتأثيثها حتى يعرض عنها ويهبها لأحد أنجاله أو حاشيته.
 
وذكر العلامة على باشا مبارك عن قصري الجزيرة والجيزة : "أنهما من أعظم المباني الفخمة التي لم يُبن مثلها ، وتحتاج لوصف ما اشتملت عليه من المحلات والزينة والزخرفة والمفروشات ، وما في بساتينها من الأشجار والأزهار والرياحين والأنهار والبرك والقناطر والجبلايات إلي مجلد كبير "، وذكر عن ارض سراي الجزيرة أن مساحتها ستون فداناً ، وأن ما صرف عليها على كثرته قليل بالنسبة لما صرف على سراي الجيزة ، وكانت هذه السراي في منشئها قصراً صغيراً وحماماً بناهما سعيد باشا ، ثم اشتراها إسماعيل من ابنه طوسون مع ما يتبعها من الأرض ومساحتها ثلاثون فداناً ، ثم هدم هذا القصر وبناه من جديد وأضاف أليه أراضى أخرى ، وأحضر المهندسين والعمال من الإفرنج لبناء القصر وملحقاته وانشأ بستانه العظيم وبستان الأورمان ، وبلغت مساحة الأرض التي شغلها سراي الجيزة وسراي الجزيرة وحدائقها 465 فدان ( خمسة وستين وأربعمائة فدان ).
 
وذكر أن ما أنفق على إنشاء سراي الجيزة بلغ 1.393.374 جنيه
 
وسراي عابدين 565.570 جنيه
وسراي الجزيرة 898.691 "
وسراي الإسماعيلية (الصغيرة) 201.286 "
وباقي القصور 2.331.679 "
من ذلك سراي الرمل 472.399 "
 
وبالرغم مما وصلت أليه حالة الحكومة المالية من الارتباك وتوقفها عن الدفع في سنة 1876 ، فإن الخديوي استمر في تلك السنة يكمل سراي الجيزة الفخمة التي لم تتم إلا قبيل خلعه.
 
وتكالف تجميل هذه القصور وتأثيثها ما لا يحصى من الملايين ، فقد بلغت النقوش والرسوم في قصور الجيزة والجزيرة وعابدين مليوني جنيه ونيفاً ، وبلغت تكاليف الستارة الواحدة ألف جنيه ، أما الطنافس والأرائك والأبسطة والتحف والطرف والأواني الفاخرة ، فلا يتصور العقل مبلغ ما تكلفته من ملايين الجنيهات.
 
ومن أسباب إسراف إسماعيل ميله إلي الملذات ، وهذه مسألة تعد مبدئياً من المسائل الشخصية ، التي لا يصح التعرض لها ، ولكن إذا تعدى أثرها إلي حياة الدولة العامة كانت من المسائل التي لا حرج من الخوض فيها ، وقد تعرض لهذه الناحية الكتاب والمؤرخون حتى الذين كانوا من أصدقاء إسماعيل ، ويلوح لنا أنها كانت من العيوب التي أخذت عليه وهو بعد أمير ، قبل أن يتولى العرش ، فقد ذكر المسيو فردينان دليسبس انه رآه في عهد سعيد قبل أن تؤول ولاية العهد ، وكان عمره وقتئذ خمساً وعشرين سنة ، وقال عنه أنه علي جانب عظيم من الذكاء والحصافة والجاذبية ، وأنه إذا لم ينهمك في ملذاته بمقدار ما هو عليه الآن (سنة 1854 ) فإنه سيعرف قدر نفسه يأتي منه النفع الكبير.
 
وفي 24 نوفمبر 1875 وافق الخديوي إسماعيل على بيع 177.642 سهم من أسهم السويس'>شركة قناة السويس إلى بنك روتشيلد مقابل أربعة ملايين جنيه استرليني. ووقع على عقد البيع كل من إسماعيل باشا صديق نائباً عن الحكومة المصرية ، والجنرال ستانتون نائباً عن الحكومة الإنجليزية، بحضور نوبار باشا ومهردار الخديوي.
 
والفائدة الاسمية للقروض كانت تتراوح بين 6 و 7%، ولكن فائدتها الحقيقية تصل إلي 12 و18 و26 و27%، وكان الخديوي كلما أعوزه المال يستدين بفوائد باهظة جالبة للخراب، وزادت هذه الفوائد الربوية في أواخر سنة 1875 وأوائل سنة 1876، لاضطرار الحكومة إلي أداء أقساط الديون المتراكمة وفوائدها، فكانت تتحايل للحصول علي المال بأية وسيلة، ومنها الاستدانة بواسطة السندات على الخزانة بفوائد فاحشة، بالغة ما بلغت، فكانت سائرة في سبيل الخراب لا محالة.
 
ولم تكن قيمة القروض تصل كاملة إلي الخزانة، بل كان أصحاب البيوت المالية والمرابين يخصمون منها مبالغ طائلة لحساب المصاريف والسمسرة والفوائد، وما إلي ذلك، ولم يكن إسماعيل يدقق أو يعارض في الحسابات التي يقدمها له الماليون والسماسرة. فالقرض المشئوم الذي عقد سنة 1873 بلغ مقداره الاسمي 32 مليون جنيه لم يدخل منه الخزانة سوى 20,700,000 جنيه، منها أحد عشر مليوناً من الجنيهات نقدناً والتسعة ملايين سندات.
 
ولم يتسلم من القرض الذي عقده سنة 1870 سوى خمسة ملايين فقط ، وكان اصله سبعة ملايين ، وقس علي ذلك باقي القروض. أما الديون السائرة فلم يكن لها ضابط ولا حساب ، وكانت تبلغ ثلاثة أمثال قيمتها الحقيقية وفي بعض الأحيان أربعة أمثالها. وقد أحصى بعض الماليين مقدار ما تسلمه الخديوي من القروض فبلغ 54 مليوناً من الجنيهات تقريباً في حين أن قيمتها الرسمية 96 مليوناً.
 
وقال المسيو جابرييل شارم Gabriel Charmes أحد كتاب فرنسا السياسيين ومن محرري جريدة (الديبا ) وقد عاصر إسماعيل ودرس حالة مصر في عهده : "إن إسماعيل باشا قد اقترض في الثمانية عشر عاماً التي تولى الحكم فيها نحو ثلاثة مليارات من الفرنكات (120 مليون جنيه تقريباً )، ولكن الواقع أن نصف هذا المبلغ على الأقل بقي في يد الماليين وأصحاب البنوك والمضاربين من مختلف الأجناس ممن كانوا يحيطون به على الدوام " وهذا هو الخراب بعينه.
 
ومما يدعو إلي الأسف أن أمواله التي كانت تتدفق ذات اليمين وذات الشمال لم يكن ينال الوطنيين منها إلا النزر اليسير ، بالنسبة لما ينال الأجانب الذين كانوا يحيطون به ويشملهم بثقته ورعايته ، قال المسيو جابرييل شارم في هذا الصدد : "كان إسماعيل يغترف المال من الخزانة العامة بكلتا يديه ليرضى أهواءه الشخصية فحسب ، بل ليسد نهم الطامعين الملتفين حوله ، فكم من الفرنسيين والإيطاليين والإنجليز كانوا تعساء في بلادهم ..
 
ثم نالوا بعد أن هبطوا مصر الرخاء والنعيم ، لقد كان الخديوي مستعداً على الدوام أن يهبهم المراكز والقصور والمنح ( البقاشيش ) ، أو يعهد إليهم بالتوصيات على التوريدات ، وما كان أشد دهشة السياح إذ يرون في القاهرة أو الإسكندرية جماعة من الأوربيين ليس لهم من المزايا إلا مظهر الرجل الأنيق ، يقومون بمهمة الموردين لنائب الملك (الخديوي ) ، ويربحون من هذه التجارة أرباحاً باهظة ، لا يتصورها العقل ، فليس ثمة وسيلة لجمع الثروة الطائلة أسهل من الحصول على عطاء تأثيث إحدى السرايا الخديوية ، أو توريد بعض الصور أو التحف والطرف ، وكم من أناس جاءوا من أوربا مثقلين بالديون ، فما كادوا يستقرون في القاهرة ويأوون إلي إحدى قاعات الانتظار في سراي عابدين ، حتى صاروا طفرة من أصحاب الملايين ".
 
وقد فحصت لجنة التحقيق الأوربية سنة 1878 أسباب تراكم الديون والعجز في ميزانية الحكومة ، فكشفت عن تصرفات مدهشة تدل على أقصى أنواع الإسراف والتبذير ، فمن ذلك أن إحدى الأميرات من بيت إسماعيل بلغ المطلوب منها لخياط فرنسي 150 ألف جنيه ، وأن مبالغ طائلة ضاعت في الآستانة دون أن تعرف أبواب إنفاقها ، وأن الخديوي كان يشترك مع إسماعيل باشا صديق في مضاربات البورصة ، وأن الحكومة أرادت يوماً أن تؤدي بعض ما عليها من الدين لأحد البنوك المحلية ، فأعطته سندات من الدين الموحد قيمتها 230 ألف جنيه بحساب السند 31.5 جنيه ، أو بعبارة أخرى لكي تسدد ديناً قدره 72 ألف جنيه حملت البلاد ديناً مقداره 230.000 جنيه.
 
وقد فحصت لجنة التحقيق قاعدة إسماعيل المتبعة ، حتى في أعمال العمران ، فقد اتفق مع شركة جرنفلد الإنجليزية على إصلاح ميناء الإسكندرية في مقابل 2.500.000 جنيه في حين أن أعمال الإصلاح لم تتكلف سوى 1.440.000 جنيه كما اعترف بذلك اللورد كرومر...!!