بقلم: أندرو أشعياء 
سار الأخ بيشوي  بخطوات سريعة نحو الكنيسة، كان يرتدي معطفًا باليًا فوق ثياب رهبنته (الجلباب الأبيض) ليتدفأ.
 
كان الوقت قد قارب منتصف الليل، وامتلأت طرقات الدير بالإخوة الذاهبين لقداس عيد الميلاد، كانوا يسيرون في وقار ولا يتحدثون، فقط يكتفون بإيماءة بسيطة متى تلاقت أعينهم.
 
رهبان هذا الدير القابع في الجبل الشرقي ليسوا كثيرين، فقسوة المناخ في هذا المكان لطالما أبعدت طالبي الرهبنة عنه، بل واضطرّت بعض رهبان الدير أن يتركوه بعد أن اعتلّت صحتهم كثيرًا. 
 
الأخ بيشوي أو قل الأخ الشيخ (هكذا يلاطفونه بسبب حكمته) له الدير ستة وعشرين شهرًا، بشوش، صامت، ويتقن شيئين لا ثالث لهما: عمله في فرن الدير، وصلاة المسبحة.
 
تعلّم صنع الخبز في الدير، أمّا المسبحة فقد تعلمها من أمه.
 
يحمل معه دائمًا مسبحة خشبية قديمة كانت لأمه، وأعطتها له وهو طفل، أخبرته أنها بركة من الأراضي المقدسة، فاحتفظ بها كأثمن ما يملك.  
 
إذا سألته لماذا اختار هذا الدير دون سواه، فلن يتذكر، سيكتفي بضحكة طفولية وسيتركك ليلحق بالفرن. يمارس الأخ بيشوي عمله بإتقان وصمت وشغف، الحق أن كل ما يعمله، إنما يعمله بشغف وحب شديدين. 
 
في تلك الليلة، ليلة عيد الميلاد، سار بخطوات سريعة نحو الكنيسة، وكعادته كان ينظر للأرض، وبين الحين والآخر يتحسس جيبه ليتأكد أنه لم يَنسَ مسبحته التي لا تفارقه أبدًا. دخل في هدوء إلى الكنيسة، ورسم الصليب، ثم جثا في مكانه المعتاد وأخرج المسبحة من جيبه. لم يتبادل التهنئة بعيد الميلاد مع الأباء والإخوة كمان يفعلون، فقط جثا في مكانه وبدأ يصلي المسبحة حتى بداية القداس. 
 
في القداس يظل صامتًا مُغمَض العينين، يعزف عن الاشتراك في الترتيل لأنه يدرك مدى الإزعاج الذي سيسببه صوته الأجشّ، ولكن أذنيه تميزان أصوات المُصليين. يحب بشكل خاص الأب رويس، فله صوت عذب صادق ينفذ إلى أعماق نفسه، كما يسكن قلبه لصوت الأرغن العتيق الذي يعزفه الأب العجوز باسيليوس، وهو خبير بالموسيقى والمسئول عن تعليم الإخوة الجدد. 
 
في تلك الليلة، وقبل بداية القداس، شعر بيد تلمس كتفه، فتح عينيه ليجد الأب رويس بجانبه، قال له: "سأصلي الليلة السلام المريمي عقب الابركسيس بلحنه الطويل، فقد قالت لي إنك تحب هذا اللحن!". ابتسم الأخ بيشوي، ثم أغمض عينيه مرة أخرى، وبينما تلى لسانه صلاة المسبحة بشكل أوتوماتيكي، كان يفكر: "هل أتت أمي للدير؟ ولماذا لم تقابلني إذًا؟ مرت قرباة السنتان ونصف منذ آخر مرة التقيتها منذ دخولي الدير، لم أكن موقنًا أنها ما تزال على قيد الحياة! ربما زار الأب رويس قريتي؟! ولكنه لم يخرج من الدير منذ شهور! لا بأس سأسأله بعد القداس عن هذا... أو ربما غدًا".
 
في طفولته، كانت أمه تصرّ أن يصلوا قداس عيد الميلاد في الكنيسة الصغيرة في قريتهم. مازالت صور الايقونات الضخمة ماثلة في ذهنه؛ الحوائط الشاهقة المزينة برسوم عصر النهضة، ثياب الاب الكاهن الفخمة، الأرغن الضخم والذي لم يرَ في ضخامته غير هناك، الخورس الكبير العدد من المُصليين، وصوتهم العذب. يذكر أنه في احدى أعياد الميلاد صلى العريف مرد الابركسيس شيري ني ماريا الكبير، ومنذ أن سمعه أول مرة، وحتى الآن، لا يستطيع أن يحبس دموعه! تأسره هذه الحالة من التصوّف التي جعلت واضع اللحن أن يؤلف لحنه حول مطلع السلام المريمي فقط "السلام لكِ يا مريم"! ماذا جذبه في هذه العبارة فراح يهذّ بها هكذا؟ هل تجلّت له أم الله فراح يحيّيها وينشد أعذب الموسيقى تحية لها؟!... لا يهم، سيظل يتلذذ باسمها طوال اليوم، سواء في القداس أو في مسبحته الحبيبة. 
 
بدأ القداس كالمعتاد، صوت الأرغن العتيق، وخورس الدير البسيط، انتهت صلاة باكر وها قد صلوا الهيتنيات ومنها الي القراءات حتى الابركسيس، ومن ثم بدأ الأب رويس ينشد السلام المريمي في إتقان وخشوع شديدين. أحس الأخ بيشوي ببعض الحرارة والضوء الشديد، ففتح عينيه على غير عادته ليجدها أمامه، هي بعينها، تحمل وليدها الإلهي ويغلفهما نور سماوي أزرق دافئ. إنها هي، تجلس على كومة من القش، وحولها بعض حيوانات الحقل، وجوقة من الملائكة، والأب رويس في وسطهم ينشد السلام المريمي، وصوت موسيقى رائعة، لا تستطيع أوركسترا بشرية أن تنتجه. 
 
قالت له الممتلئة نعمة: "أعلم أنك تحب هذا اللحن، فطلبت من ابني رويس أن ينشده خصيصًا الليلة، وفي عيد الميلاد القادم، ستنشده أنت".  كانت الدموع تنهمر من عينيه بشدة، وقال لها بصوته المتهدج: "يا أماه، كيف لأجش الصوت مثلي أن يلحن، ولماذا أفسد عذوبة العيد بالنسبة للإخوة؟"، أمّا هي فاكتفت بابتسامة، ونظرت إلى وليدها قائلة: "بيشوي يستعفي يا ولدي"، فضحك عمانوئيل ببراءة طفولية ونظر له نظرة حنونة. حين انتهى النشيد كان الأب رويس، والأخ بيشوي يبكيان بحرقة، وبعد القداس أسرع كل منهما لقلايته دون أن ينبسا ببنت شفة! 
 
طوال العام لم يتحدثا مطلقًا مع بعضهما في هذا الأمر، وظل الأخ بيشوي يصنع الخبز ويصلي المسبحة، وفي ليلة عيد الميلاد من العام التالي، دقّ ناقوس الدير بنغمة يفهم الرهبان معناها، وانطلقوا نحو الكنيسة لينبئهم الأب الرئيس بانتقال الأب رويس بشكل مفاجئ وهو يصلي المسبحة. 
 
في تلك الليلة أصر الأخ بيشوي أن يرتل السلام المريمي ، وأدّاه بصوت مختنق مملوء بالدموع، وبكى الإخوة معه. وفي صباح ذكرى الاربعين سامه الأب الرئيس باسم الأب رويس وأوصاه: "هوذا كل شئ قد صار جديدًا .. احذر الغفلة والعقل الطواف"  حتى أنه وهبه مسبحة الاب المتنيح. وفي ذلك القداس صلى نفس اللحن بصوت مختنق طالبًا شفاعات والدة الاله وبركة الاب المنتقل. ومنذ ذلك اليوم لا يفتر عن استخدام المسبحة، كما لا يهدأ لسانه عن ترديد  "ارحمني يا ابن الله .. السلام لكِ يا مريم"...