خالد عكاشة
الثلاثاء الماضى، أعلنت السلطات التركية أن «رسمية عواد» شقيقة البغدادى البالغة من العمر ٦٥ عامًا، قد جرى اعتقالها فى مداهمة قرب مدينة «أعزاز» القريبة من الحدود، والتابعة لريف «حلب»، وكان بصحبتها أيضًا زوجها وزوجة ابنها عند اعتقالها فضلًا عن خمسة أطفال. وقال المسئول الأمنى الرفيع بعدها: «نأمل أن نستخلص معلومات ثمينة من شقيقة البغدادى، عن العمل داخل داعش». ومررت تركيا هذا الحديث، باعتباره ليس «مزحة»، فقد صاغت معه العديد من السطور التى حاولت أن تشتبك مع سيل الاتهامات التى تلاحقها، من قبل مقتل البغدادى وأثناء عملية الوصول إليه، ومؤخرًا بعد الإعلان عن مصرعه، لذلك ذهب «فخرالدين ألطون» مدير مكتب الاتصالات بالرئاسة التركية للقول: «تنتشر دعاية سوداء كثيرة ضد تركيا، لتثير الشكوك فى عزمنا على محاربة (داعش). فتعاوننا القوى فى مكافحة الإرهاب، مع الشركاء الذين يفكرون بالطريقة نفسها لا يمكن التشكيك فيه قط»!

بالطبع الجميع بداخل سوريا وخارجها، أخذ حديث المسئول الأمنى باعتباره حلقة فى مسلسل المزاح ثقيل الظل، فنفس هؤلاء الجميع وغيرهم يدركون مدى ارتباط تنظيم «داعش» بتركيا، لذلك يظل تصديق أن تركيا كانت تنتظر تلك المداهمة، كى تستقى منها معلومات عن «داعش» من الداخل، هى ضرب عبثى من دجل التصريحات الإعلامية التى لا تنتقطع من أنقرة. فأهالى تلك المنطقة الذين يعيشون تحت الاحتلال التركى المباشر، أو من قوات المرتزقة التابعين لها، يؤكدون أن الجميع كان يعلم أن «رسمية عواد» شقيقة البغدادى موجودة فى المخيم منذ فترة، والمخابرات التركية أول من تعلم بوجودها هناك. بل وتعلم مكان «الكارفان» الذى كانت تعيش فيه هى وأسرتها منذ سنوات، والذى جرى مداهمته، ومن ثم إطلاق الإعلان سالف الذكر.

رغم ما تحاول تركيا نفيه عن نفسها، بأنها هى المخطط والحامى لتنظيم «داعش» منذ نشأته، وطوال سنوات مسيرته الإرهابية، وصولًا إلى استخدامه- التنظيم- فى ترتيب وإنفاذ الأجندة التركية، بقدر ما استطاع التنظيم تحقيقه قبل هزيمته مؤخرًا أمام «قوات التحالف الدولى»، وبشكل محدد أمام القوات الأمريكية وقوات «سوريا الديمقراطية» الكردية. وهناك من وضع شكوكًا عميقة؛ حول الدور التركى الذى بقى حاضرًا أثناء عمليات الإخلاء لقادة التنظيم، ومنهم أبوبكر البغدادى بالطبع قائد وزعيم التنظيم، حيث ظل موقع مصرعه يثير غبارًا كثيفًا حول دور الاستخبارات التركية، ليس فى الإرشاد عنه فقط، بل وفى صفقة على مستوى عالٍ جرى تمريرها، قبل وصول البغدادى الذى استدرج لهذا الموقع «٥ كم من الحدود التركية»، إما لتسليمه فى هذا المكان الذى تسيطر عليه القوات التركية وتنظيماتها، أو تسهيل عبوره الحدود للداخل التركى القادر على إذابته فى المدن التركية، تمهيدًا لنقله إلى مكان آخر، ربما يعاود نشاطه من خلاله عبر أى من الفروع المنتشرة بالمنطقة. وهناك من كشف عن أن ليبيا على وجه الخصوص كانت من الأماكن المقترح نقله إليها، ومنطقيًا من كان سيجرى عملية النقل تلك هى الاستخبارات التركية، الحاضرة على هذا الخط فى نقل واستجلاب المقاتلين ذهابًا وإيابًا، وفق ظروف واحتياجات الساحة الليبية وتطوراتها.

هذا المكان المشار إليه، خارج بالطبع عن سيطرة الدولة السورية ويخضع بصورة كاملة للتنظيمات الإرهابية، والتى تناوبت على المكان طوال سنوات الأزمة السورية، والآن يمكن القول إن هناك تنظيمين هما أصحاب السطوة والسيطرة الفعلية، أولهما تنظيم «هيئة أحرار الشام»، جبهة النصرة سابقًا. هذا التنظيم يتولى إدارة منطقة يقطنها نحو مليونى نسمة، ويجنى عائدات من حركة البضائع والسلع عبر المعابر مع مناطق سيطرة النظام السورى من جهة، ومع تركيا من جهة ثانية. فمنذ العام ٢٠١٥ سيطر ائتلاف فصائل معارضة، والتنظيم القاعدى الذى كان يسمى حينها «جبهة النصرة» على كامل «محافظة إدلب» بما فيه ريفها. وتشكلت إثر ذلك مجالس محلية لإدارة البلدات والقرى، بينها المجلس المحلى لمدينة إدلب، حيث تلقت الدعمين المالى والعينى والتسليح من «الحكومة المؤقتة» التابعة للائتلاف السورى المعارض ومقره اسطنبول. فى عام ٢٠١٧ طورت تركيا هذا المكون، ليكون تحت مسمى «حكومة الإنقاذ» حتى يكون واجهة مدنية لها، كما وسعت عملها تدريجيًا لتصبح الجهاز الإدارى للمحافظة، وباتت «هيئة تحرير الشام» تسيطر عليها بالكامل منذ مطلع العام ٢٠١٩.

هذه هى المنطقة التى وقع فيها البغدادى فى يد القوات الأمريكية، وهى ذات المنطقة التى لا يستطيع قائد تنظيم «داعش» دخولها إلا بمعرفة التنظيم الذى يسيطر عليها. ولا يتصور مروره من نقاط التفتيش الأمنية، ولا من الجهاز الأمنى التابع للهيئة الذى يعد الجهة الأمنية الأكثر نفوذًا، ويتولى مسئولية مواجهة أى اختراقات من قوات تابعة لفصائل أخرى، لا ترتبط بتركيا بشكل مباشر، بل وتتم مراجعة أجهزة الأخيرة فيما إذا كانت هناك شكوك من أى نوع، حول نشاطات قد تجرى حول حدود تلك المنطقة المسيطر عليها. وهذا أمر ليس سريًا بأى صورة؛ فتركيا ورجب أردوغان شخصيًا يجلس على موائد «سوتشى» و«آستانا» ليتحدث باسم هؤلاء، ويفاوض حتى اللحظة من أجل تأمينهم وتأمين سيطرتهم على «محافظة إدلب»، لذلك تصور أن هناك خرقًا بحجم تواجد البغدادى وكبار معاونيه وحرسه الشخصى، دون علم «هيئة تحرير الشام» ومن ثم الاستخبارات التركية، هى فرضية نظرية لا تمت للواقع بصلة. كما يدعم ذلك أن تركيا تعلم تمام العلم أماكن بقية المتواجدين، ممن هم على درجة من الأهمية التى قد تمكنها مستقبلًا من غسيل سمعتها، أو استخدامهم فى عقد صفقات التسليم والتبادلات، كما جرى منذ أيام مع «رسمية عواد» شقيقة البغدادى ومن كان معها.

هذا عن التنظيم الأول، أما التنظيم الثانى «حراس الدين» وكيف تداخل مع تلك المعادلات وقدر تأثيره فيها فيدور حديثنا الأسبوع القادم بإذن الله.
نقلا عن الدستور