القمص اثناسيوس فهمي جورج
يستمد التعليم الكنسي أهميته واحترامه من شُهرة المسيح ربنا الذي ذاعت شهرته كمعلم (رابوني) بين تلاميذه وسامعيه؛ وحتى من أعدائه.. وقد لُقب بالسيد والمعلم، وكل من سمعوه بهتوا من الحكمة التي كانت تخرج من فيه؛ لأنه كان يعلم بسلطان. وتعليمه ليس له بل من الآب، وكان كثيرًا ما يتكلم بأمثال.. كذلك لُقب كل مَن وضع عليه الرب مسئولية التعليم في الكنيسة؛ فيكون كارزًا بالإيمان والحق والإنذار بكل حكمة؛ لكي يكون كل إنسان حاضرًا كاملاً في المسيح يسوع.

وكل مَن يُدعى معلمًا عن غير أهليه؛ يهين كرامة المعلم الأوحد (لأن معلمنا واحد) وجميعنا له وعنده تلاميذ. لذلك من الأهمية عند صنع واقع ومستقبل أفضل للمؤسسات الكنسية التعليمية أن ننتقل من العموميات إلى المحددات؛ مستخدمين أدوات التفوق والتطور العلمي كأعظم منجزات مسيرة التمدن الإنساني؛ للاستفادة بثمرة التطور الطويل عبر مسيرات الحضارات الإنسانية المختلفة. فبدون وضع تصور ملائم يتمشى مع ظروف التعليم المناسب للعصر؛ ووضع مشروع تعليمي لكنيسة المستقبل؛ لن نرتقي إلى سُلّم الفكر المناسب والإبداع والعبقرية. وكي يكون هذا التصور ملائمًا؛ يلزمنا المراجعة

والتقييم وممارسة النقد الذاتي العقلاني غير المنطلق من التشيُّع الوجداني؛ حتى يمكن تسجيل الإيجابيات ورصد السلبيات وأوجه التقصير؛ لأنه من غير المعقول أن نستمر في واقعنا بالدفاع عن الإخفاقات بمشاعر الإعجاب والوجدانيات؛ لأن الهوى في اللغة يفيد العاطفة كما يفيد السقوط والانحدار. ورسالة التعليم الكنسي هي كلمة المصالحة المشبَّعة بالرؤية الكونية؛ التي تتحاور وتجيب وتركز على قضية جمع كل شيء في المسيح. لذلك أبدع الآباء معلمو الكنيسة في التواصل مع كل الثقافات السائدة، وغرسوا رسالة الإنجيل في تربة كل الحضارات؛ لتأتي بالأمم والشعوب والقبائل أمام العرش؛ حاملين

أعمالهم وتراثهم وثقافاتهم وتواريخهم، ليضم هذا التعدد خطابًا لاهوتيًا يتناسب مع الخليقة كلها.. وبدون رصد واقعنا وما هو الممكن؛ لن نخطو إلى الأمام؛ بل سنظل ننظر إلى الخلف؛ لأننا نفتقر إلى الواقعية ونتعامل معها بسطحية؛ كأنها مجرد افتراضات أكاديمية، بينما لا قيام لمشروع تعليمي معاصر؛ إلا بقياس الفارق بين ما ينبغي أن يكون؛ وبين ما هو كائن؛ لمعرفة المطلوب!!! الحقيقة أن ما يُقدّم من أعمال تعليمية هو بعض وليس كل ما ينبغي تحقيقه، وإلا نكون قد شابهنا الذين يصفون حالهم بأنه ليس في الإبداع أفضل مما هو كائن... وظاهرة الرضى والمبالغة في ترديد المنجز والاحتشاد بالمديح داء عياء عندنا، وهو لن يُسهم في تحديد المطلوب والمرتجىَ.

مشروعنا التعليمي الكنسي يحتاج إلى تطور كيفي في نوعية المناهج والمقررات والتدريس والمدرسين.. يحتاج إلى كتب منهجية (Text books)؛ يحتاج إلى برامج وطرائق متطورة، وإلى أساتذة متخصصين؛ يحتاج إلى تحديث لمعاهدنا ومجلاتنا الأكاديمية؛ وإلى حرية البحث والحوار الأكاديمي؛ بالاحتكام لتعليم الآباء والنصوص الآبائية والتقليد؛ كمرجع رئيسي

يحكم مسيرة البحث العلمي. ولا قيام لأي مشروع بدون رؤية كلية، تصاغ فيها الأهداف الاستراتيجية للتعليم الكنسي في إطار متكامل يتضمن أربعة محاور: ١_ المنهج ٢_ المدرس ٣_ التلميذ ٤_ المعهد، لننتقل إلى وضع برامج تفصيلية تضمن ترجمة الأهداف؛ على مستوى برامج تعليمية زمنية؛ تتصف بالجودة والإتقان والإبداع المناسب للمحصول المعرفي، على أن تكون هذه الأهداف ورقة عمل إجرائية وتنفيذية؛ تكفل أن تكون المقررات وبرامج التدريب في خدمة الأهداف المطلوبة.

هناك فارق بين أساليبنا في التدريس والأساليب المتطورة؛ فلا قيمة للحشو والتلقين ورتابة المواد والتلقّي؛ لأنه يكرس السلبية والقولبة وكتم الأنفاس الفكرية وطاقات الإبداع، إذ أن هذا المناخ يُنتج ريكوردرات وآلات تصوير؛ لا تجدي ولا

تفلح في التعامل مع شعب ورعية وشباب وأطفال هذا الجيل. لذلك لا بُد أن ينصبّ مشروعنا التعليمي الكنسي على التطوير والملاءمة والتثاقف. لتكون الصلة وثيقة ومناسبة بين (التعليم اللاهوتي) و (الحياة المعاصرة بثقافتها السائدة الآن).. فمرحلة الدراسة اللاهوتية تسلم التلميذ (كمنتَج) إن جاز التعبير؛ للمرحلة التالية، بعد تشكيله وتكوينه وتلمذته اللاهوتية ليكون (متعلمًا من الله) و (لسانه قلم كاتب ماهر).. على اعتبار أن التعليم اللاهوتي من أهم أدوات التكوين؛ بل هو حجر الزاوية في صنع وتكوين مستقبل الكنيسة التعليمي. التعليم في كنيستنا هو مدرسة المسيح وهو معلمها الأوحد.. التعليم في كنيستنا هو الحضّانة؛ وهو رئة الكنيسة التي تكوِّن الراعي والخادم والمؤمن، وتشكّل بكيفية معينة فكره وتلمذته وانعكاساتها، ومدي صلاحيتها وتجاوبها مع المعطيات والتحديات المحيطة..

وهذا يعني أن أغراض التعليم تصبح هي أغراض الكنيسة الخلاصية.. فهل برامجنا تعمل بوضوح نحو هذا الغرض؟؟!! أم أنها لا زالت تخدم جيل الماضي وعقول الستينيات التي لم تعد اليوم كذلك؟؟!! المشروع التعليمي المستقبلي لا تتغير

ثوابته من ناحية العقيدة والتسليم الكنسي؛ لكن التحديث يشمل الصياغات وطرق التدريس وإدارة الوقت والوسائل والآليات واختيار الموضوعات والعناوين والطَرح ومعالجة التحديات والشكوك المحيطة؛ لأن العبرة ليست في كمية التعليم فقط؛ لكنها تمتد إلى كيفيته ومعاصرته، إذ أننا لسنا بمعزل عن الاتصال بالعالم وبالأحوال الفكرية في الكون كله. ولا بُد أن ألمح إلى ضرورة وضع نظام ولوائح هياكل تنظيمية وتقنيات إدارية توفر الآليات؛ التي تؤسس لتحقيق المشروع القادر على مجاوبة كل من يسألنا عن سبب الرجاء الذي فينا، وسط حملات استباحة مسعورة وممنهَجة؛ تستهدف شعبنا

وكنيستنا وأرثوذكسيتنا. مع الإقرار بغيرة وحيادية بأن هناك مسافة بين الموجود والمأمول؛ الأمر الذي يعجّل بضرورة تقييم المؤسسات التعليمية الحالية.. وذلك بتحديد الإجابة على الأسئلة التالية: ١- ما هي الأهداف العامة (الاستراتيجية) للعملية التعليمية في المراحل السنية: أ- التربية الكنسية ب- إعداد الخدام ج- القادة وأمناء الخدمة د- التعليم الاكليريكي ﻫ- المعاهد المتخصصة؟؟!! ٢- ما هو وضع المؤسسات التعليمية الراهن؛ من وجهة نظر الأهداف العامة للعملية التعليمية؟؟!! ٣- ما هي آلية تنفيذ الفارق بين الحالي والمرتجى؟؟!! وكيف ننطلق من الموجود إلى المأمول؟؟!! إن التهوين والتأجيل لا يصب إلا في خانة سلبية، والحلول الترميمية لن تكون مجدية؛ بل تزيد من الفجوات ومن الفاقد والمقتنَص.

كذلك الأفكار النمطية والاكلاشيهات واللغة الخشبية لن تجدي نفعًا في هذا الجيل الذي تسربت إليه عدوى التمرد من المجتمع المحيط بشكل هستيري.. الأمر الذي يلزم معه حساب نفقة عمل البرج التعليمي؛ حتى لا يكون هزيل التكوين؛ بل متسعًا ومتنوعًا وعاليًا ومحصنًا ضد كل علو.