فاروق عطية

 الحملة الفرنسية على مصر'>الحملة الفرنسية على مصر -2   

   بعد هزيمة أبو قير البحرية، أصبحت حملة بونابرت مرتبطة بالبر. بدأ نابليون يتصرف كحاكم مطلق لكل مصر رغم أنه واجه انتفاضات قومية متكررة، نجح جيشه في توطيد سلطته. حاول بونابرت الحصول على دعم السكان المصريين باستماتة، باذلا كل الجهد بأصدار تصريحات تصفه بأنه محرر الشعب من الاضطهاد العثماني والمملوكي، كما أشاد بالدين الإسلامي ومدعيا الصداقة بين فرنسا والامبراطورية العثمانية (رغم تدخله في شؤون الدولة المصرية ذاتية الحكم). هذا الموقف أكسبه في البداية دعمًا قويًا في مصر.
 
   كان مبدأ بونابرت هو النظر إلى الأديان على أنها عمل سياسي، ومن الواجب احترامها في كل مكان كمحرك قوي للحكم. إذا تحدث بونابرت كمسلم، فقد كان ذلك فقط جزءا من شخصيته العسكرية وحكمه السياسي لبلد مسلم. إن القيام بذلك كان أساسياً لنجاحه وسلامة جيشه، فهو لم يكن لديه اهتمام جاد بالإسلام أو أي دين آخر بعيدا عن قيمته السياسية. 
 
   بعد عودة بونابرت من مواجهة إبراهيم بك بفترة وجيزة جاء المولد النبوي، الذي تم الاحتفال به ببهاء كبير. قاد بونابرت بنفسه المسيرات العسكرية للمناسبة، واستعد لهذا المهرجان مرتديا لباسا شرقيا وعمامة.
 
وفي هذه المناسبة، منحه الديوان لقب "علي بونابرت" بعد أن أطلق بونابرت على نفسه "ابن للنبي" و "محبوب من الله". وفي نفس الوقت تقريباً اتخذ إجراءات صارمة لحماية قوافل الحج من مصر إلى مكة، مرسلا معها رسالة ود إلى حاكم مكة.
 
ورغم ذلك ونتيجة للضرائب التي فرضها عليهم لدعم جيشه، ظل المصريون غير مقتنعين بصدق محاولاته للتصالح واستمروا في مهاجمته بلا توقف. لم تكن عمليات الإعدام العسكرية قادرة على ردع هذه الهجمات واستمرت في الحدوث.
 
   أعلن بونابرت نفسه حاكما لمصر، ومن ثم قدم لمصر بعضا من منجزات الحضارة الغربية. فبدت القاهرة بفضله في مظهرها كمدينة أوروبية، حيث أوكل إدارة دواوينها إلى أفضل رجال المنطقة.
 
وفي الوقت نفسه، تم إنشاء بعض المؤسسات المحلية في المدن الأخرى. أُنشأ معهدا للعلماء الفرنسيين وأوكل رياستة إلى عالم أكاديمي. كما تم إنشاء مكتبة عامة ومختبر للكيمياء ومشفي للخدمات الصحية وحديقة نباتية ومرصد ومتحف للآثار وحديقة حيوان.
 
بموجب أوامر بونابرت، وضع العلماء جدولاً مقارناً للأوزان والمقاييس المصرية والفرنسية، وكُتِب قاموس فرنسي عربي وحُسِب تقويم مصري قبطي أوروبي (ثلاثي). تم إنشاء جريدتين في القاهرة، واحدة للأدب والاقتصاد السياسي تحت اسم: 
 
"Décade "égyptienne"
 والأخرى للسياسة تحت عنوان: ،
 
"Courrier égyptien"
   حاول بونابرت التغلب علي مشكلة نقص الأعداد بشكل كبير بسبب الوفيات في المعارك والمرض، وكون الجيش لم يعد يأمل في الحصول على تعزيزات من فرنسا بعد الكارثة البحرية في أبو قير، عن طريق تحويل الـ 3000 بحار الذين نجوا في أبو قير إلى فيلق بحري. أغلقت جميع الشوارع في القاهرة في الليل ببوابات لمنع السكان من مساعدة العرب في هجماتهم الليلية على الفرنسيين. قام بونابرت بإزالة أسوار القاهرة، حيث كان المصريون يستخدمونها كمتاريس ضد الفرنسيين.
 
      في 21 أكتوبر 1798م، بينما كان بونابرت في القاهرة القديمة، كان سكان المدينة ينشرون الأسلحة في الشوارع ويعملون على إقامة تحصينات، خاصة في المسجد الكبير(الأزهر). بعد تحميسهم من قبل الشيوخ والأئمة، أقسم المصريون أن يبيدوا كل الفرنسيين، وأي فرنسي قابلوه قتلوه. كان قائد اللواء "دوبوي" حاكم القاهرة أول من قتل، ثم سلكوفسكي صديق بونابرت ومعاونه في المعسكر.
 
وتجمعت الحشود على بوابات المدينة لمنع بونابرت من الدخول، الذي صُدِم وأُجبر على اتخاذ منعطف للدخول عبر بوابة بولاق.
 
أصبح الجيش الفرنسي في موقف خطير، فالبريطانيون يهددون المدن الساحلية، ومراد بك يسيطر علي صعيد مصر، وكان الجنرالان مينو ودوغوا غير قادرين على السيطرة إلا على مصر السفلى. كما كان لدى العرب المصريين تأييد ودعم لأولئك الذين يثورون ضد الفرنسيين في القاهرة.
 
   بأوامر من بونابرت تم ضرب العرب في الصحراء، وتمت إعادة المدفعية إلى المدينة الثائرة. قام بونابرت بنفسه بمطاردة الثوار من شارع إلى شارع وأجبرهم على تركيز انسحابهم في المسجد الكبير. لحسن الحظ بالنسبة للفرنسيين، كانت السماء مغطاة بالغيوم وكذلك صوت الرعد مدويا، وهي ظاهرة نادرة في مصر. اعتبر بعض من السكان المؤمنين بالخرافات صوت الرعد كعلامة من السماء.
 
أمر بونابرت على الفور مدفعيته بفتح النار على المسجد. حطم الفرنسيون البوابات واقتحموا المسجد بالخيول، وذبحوا ثوار المدينة في الداخل. بعد السيطرة المطلقة على القاهرة، تم القبض على الكتاب والمحرضين على التمرد. وأدين عديد من مشايخ الأزهر وعديد من الأتراك والمصريين الذين شاركوا في المؤامؤة وأعدموا. ولإكمال عقوبته فرض بونابرت على المدينة ضريبة عالية جديدة واستبدل ديوانها بلجنة عسكرية.
 
   مع هدوء مصر مرة أخرى ووقوعها تحت سيطرته، استغل بونابرت هذا الوقت لزيارة السويس واستكشاف قناة سيزوستريس المعروفة باسم "قناة الفراعنة" التي تم حفرها في العصور القديمة لتربط بين البحرين الأحمر والمتوسيط عن طريق النيل.
 
قبل أن ينطلق في رحلة الاستكشاف، أعاد للقاهرة حكمها الذاتي، وحل ديوان جديد مكون من 60 عضوًا محل اللجنة العسكرية.
 
   بعد ذلك انطلق بونابرت برفقة بيرتهوليت،جاسبار مونج، لو بير، دوتير، كوستاز، كافاريللي، ومتبوعا بـ 300 شخص، إلى البحر الأحمر وبعد ثلاثة أيام من السير عبر الصحراء وصل إلى السويس. بعد إعطاء الأوامر لاستكمال التحصينات في السويس، عبر بونابرت خليج السويس وانتقل في 28 ديسمبر 1798م إلى سيناء للبحث عن جبال موسى الشهيرة على بعد 17 كيلومترًا شرق السويس. وعند عودته، فوجئ بالمد والجزر وواجه خطر الغرق. عادوا إلى السويس بعد الكثير من الاستكشلفات، وقد حققت البعثة هدفها، حيث عثرت على بقايا القناة القديمة (قناة سيزوستريس) التي أمر بحفرها سنوسرت الثالث ونختو الثاني.
 
   في هذه الأثناء، تلقى العثمانيون في القسطنطينية أنباء عن تدمير الأسطول الفرنسي في أبو قير، واعتقدوا أن هذا قد رسم نهاية بونابرت وحملته المحاصرين في مصر. قرر السلطان سليم الثالث شن الحرب ضد فرنسا وأرسل جيشين إلى مصر. انطلق أول جيش، تحت قيادة أحمد باشا الجزار بجيش قوامه 30000 جندي (من سوريا والعراق والقدس).
 
انطلق الجيش الثاني تحت قيادة مصطفى باشا من رودس بحيش قوامه 50000 حندي (من ألبانيا والقسطنطينية والأناضول واليونان). خطط العثمانيون هجومين ضد القاهرة: من سوريا، عبر الصالحية- بلبيس– الخانكة، ومن رودس عن طريق الهبوط البحري في منطقة أبو قير أو ميناء دمياط. 
 
   في يناير 1799م، وخلال رحلة القناة، علم الفرنسيون بالتحركات العثمانية وأن الجزار قد استولى على حصن العريش الصحراوي على بعد عشرة أميال (16 كم) من الحدود السورية مع مصر.
 
لتأكده بأن الحرب مع السلطان العثماني كانت وشيكة وأنه لن يتمكن من الدفاع ضد الجيش العثماني، قرر بونابرت أن أفضل دفاع له سيكون مهاجمته أولاً في سوريا، حيث سيعطيه النصر المزيد من الوقت للتحضير ضد قوات العثمانيين في رودس.
 
   قام نابوليون بتنظيم جيشه في فرق تحت قيادة الجنرالات: رينيه(2160 جندي)، كليبر(2336 جندي)، بون(2449 جندي)، لانيس(2938 جندي)، فرقة فرسان بقيادة يواكيم مرات(900 فارس)، لواء من المشاة والفرسان تحت قيادة اللواء بيسيير (400 جندي)، فرقة إيل(89 جندي)، وفرقة مدفعية تحت قيادة دومارتن(1387مدفعجي)، والمهندسين والباحثين تحت قيادة كافاريللي (3404). كان لكل فرقة من فرق المشاة والفرسان 6 مدافع. وضع نابليون 16 مدفع حصار على السفن الراسية بدمياط تحت قيادة القبطان ستاندليت، كما أمر بوريه بالذهاب إلى يافا مع قطع من مدفعية الحصار.
 
   وصل ريجنير والطليعة بسرعة إلى العريش واستولوا عليها، ودمروا جزءا من الحامية وأجبروا الباقين على اللجوء إلى القلعة. فهرب مماليك إبراهيم بك وتم الاستيلاء على معسكرهم. غادرت القوات الفرنسية بقياددة بونابرت القاهرة في 5 فبراير 1799م وبعد سبعة أيام وصل بونابرت أيضا إلى العريش وقصف أحد أبراج القلعة، استسلمت الحامية بعد يومين.
 
بعد السير لمسافة 60 كم عبر الصحراء وصل الجيش إلى غزة حيث استراح لمدة يومين، ثم انتقل إلى يافا. كانت المدينة محاطة بجدران عالية تحيط بها الأبراج. كان الجزّار قد كلف قواته بمهمة الدفاع عنها بالمدفعية التي يديرها 1200 جندي عثماني. ولما كانت يافا إحدى الطرق المؤدية إلى سوريا،وكان جزءا كبيرا من نجاح البعثة يعتمد على إسقاطها، اضطر بونابرت إلى الاستيلاء عليها قبل المضي قدمًا، فقام بحصارها من 3ـ 7 مارس. 
 
    أرسل بونابرت رسولا إلى قائد المدينة يطالبة بالإستسلام، فكان الرد هو قطع رأسه، وبدأ قائد المدينة بشن هجوم تم صده في مساء نفس اليوم. تسببت مدافع المحاربين في انهيار أحد الأبراج، مما أدى لسقوط المدينة رغم المقاومة الشديدة لحاميتها.
 
تلى سقوط المدينة يومان وليلتان من المجازر بأمر من نابليون، حيث تم إطلاق النار على أفراد الحامية الذين تراوح عددهم بين 3440 و 4100 وكان أغلبهم من الألبان.
 
قبل أن يغادر يافا، أنشأ بونابرت ديوانًا للمدينة بالإضافة إلى مستشفى كبيرة في موقع دير الكرملي بجبل الكرمل، لمعالجة جنوده الذين أصيبوا بوباء الطاعون، والذي كانت أعراضه قد شوهدت بينهم منذ بداية الحصار. 
 
   من يافا، انطلق الجيش الفرنسي إلى مدينة عكا الساحلية. في الطريق استولى الجيش على حيفا وكذلك الذخائر والمؤن المخزنة هناك، بالإضافة إلى قلعة يافة الناصرة وقلعة الناصرة وحتى بلدة صور.
 
بدأ حصار عكا في 18 مارس ، لكن الفرنسيين لم يتمكنوا من الاستيلاء عليها، وقد توقفت بذلك الحملة في سوريا بشكل مفاجئ. تمت حماية المدينة من قبل نخبة المشاة العثمانيين التي تم انشؤها حديثا تحت قيادة الجزار باشا، وكانت المدينة على الساحل مباشرة، مما مكنها من تلقي التعزيزات وإعادة التزويد بالمؤن عن طريق الأساطيل البريطانية والعثمانية.