فاطمة ناعوت
قيمةٌ عُليا أن يخفقَ «قلبُكَ» لسنواتٍ بعد رحيلك عن الحياة. فكرةٌ شعريةٌ مدهشة أن تتنفّس رئتاك فى جسدٍ آخر غير جسدك، تمجّدان صُنع الله جلَّ وتعالى فى معجزاته. درجةٌ رفيعة من الإيثار والسموّ والترقّى أن يكون موتُكَ حياةً لبضعة أشخاص كانوا على وشك الموت المحقّق. شىءٌ يشبه «الشهادة». لأن الشهيدَ يفتدى بموته حياةَ آخرين. كذلك يفعل أولو العزم من المُحتضرين الُمتحضّرين الذين يوصون بأعضائهم البشرية لمرضى ينتظرون موتهم، فيكون لقاؤهم مع الحياة، لا مع الموت.

قرأنا قبل أيام عن سيدة جميلة من المملكة العربية السعودية، أوصت، قبل وفاتها، بالتبرع بجميع أجهزتها الحيوية لصالح مرضى يحتاجون إليها. السيدة النبيلة لم تشأ الإفصاح عن اسمها، فهى لا تبتغى شهرةً من وراء ذلك، كذلك لا تعرف أسماءَ المرضى الذين سوف يصافحون الحياة من جديد، بعدما تُزرع أعضاؤها فى أجسادهم. الأمر برمّته لوجه الله والخير والجمال. وبالفعل، أعلن وزير الصحة السعودى، د. توفيق الربيعة، عن نجاح العمليات الجراحية الدقيقة، إذ نجح الأطباءُ السعوديون بمستشفى الملك فهد بالدمام ومستشفى الملك فيصل بالرياض، فى زراعة أعضاء السيدة المتوفاة دماغيًّا فى أجساد سبعة أشخاص ينتظرون حتفهم، وتم إنقاذهم، من بينهم الطفلة «وريف»، التى زُرع فى خصرها كُليةُ السيدة الكريمة. كذلك الرئتان والقلب والبنكرياس والكبد لم تُوارِ التراب مع جسد المرأة الطيبة، بل كُتبت لتلك الأعضاء الحياةُ فى أجساد أخرى لها نصيبٌ فى العيش. سبق أن أنشأت السعودية موقعًا على الإنترنت لراغبى التبرع بالأعضاء بعد الوفاة. يوقع الراغبون بالتبرع على استمارة، (لا تُعتبر وثيقة إلزامية) لأخذ الأعضاء بعد وفاة المتوفى، بموافقة ذويه. ونرجو أن نرى مثل ذلك التحضُّر فى مصر، بعد السماح بنقل الأعضاء على غرار السعودية وجميع دول العالم. تلك هى الأمور التى يجب على البرلمان المصرى الانشغالُ بها، بدلا من التركيز على ملابس النساء وفن التنكيد عليهن! ذكّرتنى حكاية تلك السيدة السعودية الجميلة (التى لا أعرف اسمَها)، بقصة حقيقية أخرى تحوّلت إلى فيلم أمريكى بعنوان Seven Pounds.

شابٌّ ناجح، يعمل مهندسًا للطيران ويعيش فى ولاية لوس أنجلوس الأمريكية. تسبب، دون قصد، فى قتل سبعة أشخاص، فى حادث سيارة، حين كان يكتب على هاتفه رسالة نصيّة أثناء القيادة، فوقعت الكارثة. أوجعه الشعورُ بذنب إزهاق أرواح سبعة أبرياء لكى يرسل رسالة! وفكّر، كيف يهرب من عذاب ضميره اللوّام! لو أنهى حياتَه بالانتحار، ربما يستريح من عذابه، لكنه لن يُعيد للحياة سبعةَ أرواح أزهقها فى لحظةٍ غفلة. فقرر أن يقتطع من لحمِه وهو حىّ، حرفيًّا، ليهبَ الحياةَ لسبعة مأزومين يكادون أن يُسلِموا أرواحَهم، إلى حيث تُسلَمُ الأرواحُ. وكأنما يقايضُ الحياةَ بصفقة «شِبه» عادلة: سرقَ من الحياة سبعة من البشر، فيمنحها فى المقابل، سبعةَ أشخاص آخرين كانوا على وشك الموت. قطع من جسده ٧ أجزاء ومنحها لمرضى يشارفون الموت. منح شقيقَه، مريضَ السرطان، جزءًا من رئته. ومنح سيدةً أخرى، فَصًّا من كبده. ومنح كليتَه لمريض بالفشل الكلوى. ثم استسلم لمحقن غليظ، ليمتصَّ الأطباءُ النخاعَ من عظامه، ليحقنوه فى جسد طفل مصاب بسرطان النخاع. ثم أهدى امرأة فقيرة وأطفالها بيته الجميل المطلّ على البحر، وسكن فى غرفة بائسة جلب بها حوضًا من الزجاج، أسكنه قنديلَ بحر سامًّا. ثم رقد فى بانيو مملوء بجرش الثلج، واستسلم للسعة القنديل القاتلة، بعدما اتصل بالإسعاف ليخبرهم أنه ينوى الانتحار. نُقل إلى المستشفى. وهناك تظهر وصيتُه التى يعلن فيها تبرعه لحبيبته، مريضة القلب، بقلبه الذى أنهكه الشعور بالإثم. كما أوصى بعينيه، لشابٍّ موسيقى موهوب وأعمى.

هذا رجلٌ أرهقه الحبُّ، فوزّع جسَده وما يملك، عطايا لا تُرّد، على سبعة تعساء كتبتْ الحياةُ عليهم الموتَ مرضًا أو فقرًا.

دعونا نعقد مقارنةً بين هذا الرجل، (تيم توماس)، بطل فيلم: Seven Pounds، التى كتبها الأمريكى «جرانت نايبورت» عام ٢٠٠٨، والسيدة السعودية النبيلة التى تبرعت بأعضائها للمرضى، مع «شايلوك» المُرابى اليهودى، بطل مسرحية «تاجر البندقية» لشكسبير. الرجل والمرأة النبيلان منحا الإنسانيةَ سبعة أرطال من الحُبّ، بينما رسم شايلوك نموذجًا للانحطاط والوحشية؛ إذْ أصرّ على استرداد المال الذى أقرضه لرجل مسيحى، برطلٍ من لحم المَدين الفقير!

قصةٌ واقعية حدثت الأسبوع الماضى فى السعودية، وعملان أدبيان رفيعان، صوّر أحدهما الهمجيةَ والأثرة، ورسم الآخرُ التحضّرَ والإيثار؟! خسيسٌ يقتطع من لحم الفقراء، ونبلاءُ يَمنحون أجسادَهم لإنقاذ الآخرين. ودائمًا: «الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم